ليلة العُرْس والزِّفاف


ليلة العُرْس هي البداية الفعلية لتأسيس الحياة الزوجية، فإجراء عقد الزواج يعتبر إرساءً لمشروعية العلاقة بين الطرفين، وأنهما أصبحا زوجين بحكم الشرع، لكن مع وقف التنفيذ وتأجيله عرفاً، وبالزِّفاف يدخل إتفاق الزوجية حيز التنفيذ والتجسيد العملي، حيث يبدأ الزوجان حياتهما الواحدة المشتركة، بالعيش في سكن واحد، والتعاون في برنامج حياتي مشترك.

وليلة العُرْس تشكل منعطفاً هاماً ونقطة تحوّل في حياة الزوجين، ففيها يغادران مرحلة العزوبة وحالة الفردية، والتبعية لعائلتيهما، ليكوّنا حياة زوجية يرتبط فيها مصير كل منهما بالآخر، وليصبحا كياناً اجتماعياً مستقلاً، ونواة لأسرة جديدة نامية.

والزِّفاف يعني الإعلان عن قيام هذا الصرح الاجتماعي الجديد.

والزِّفاف لغةً: إهداء الزوجة إلى زوجها.

من الزفيف وهو سرعة المشي مع تقارب خطو وسكون. وفي القرآن الكريم: ﴿فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾[1]  أي يسرعون، وأصله من زفيف النعامة وهو ابتداء عدوها. وما جاء في الحديث تزويج فاطمة (عليها السلام): أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع طعاماً وقال لبلال: أدخل على الناس زُفَّة زُفَّة، أي فوجاً بعد فوج، وطائفة بعد طائفة، سميت بذلك لزفيفها في مشيها، أي إسراعها[2] .

وقد تعارفت المجتمعات البشرية على الاحتفاء بهذه المناسبة، بحيث يُزَّف العروس إلى عروسه "والعَرُوس: نعت يستوي فيه الرجل و المرأة يقال للرجل عروس كما يقال للمرأة"[3]  ضمن أجواء فرح وابتهاج، تختلف مظاهرها من مجتمع إلى آخر. وفي تعاليم الإسلام تشجيع للإحتفاء بمناسبة الزواج.

ولما تعنيه هذه المناسبة في حياة الزوجين، ونظراً لما يرافقها من مظاهر وبرامج احتفائية في مجتمع العروسين، فإن لها وقعاً خاصاً في نفسيهما، وصدى يبقى خالداً في ذاكرتهما، وكذلك من حولهما. فهي ليلة العمر، التي ينتظرها بلهفة وشوق كل شاب وفتاة.

اختيار ليلة العُرْس:

ارتكز في أذهان الناس في مجتمعنا أن هناك ليال ينبغي تجنب الزواج فيها، وعادة ما يتصل من يريد الزواج، أو أهله بأحد علماء الدين ليسأل عن الليلة المناسبة للزواج؟.

وقد بحثنا ضمن موضوع (مستحبات ومكروهات العقد)، أن هناك أوقات ورد أنه يكره إجراء عقد الزواج فيها، والثابت منها، حين يكون القمر في برج العقرب، ويحدث ذلك لمدة يومين وربع، أي ليلتين أو ثلاث ليال، تختلف من شهر لآخر. اعتماداً على رواية عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "من تزوج امرأة والقمر في بر ج العقرب لم ير الحسنى"[4]  وهو ما اقتصر عليه أكثر فقهائنا السابقين، حيث لم يذكروا كراهة أوقات أخرى، كالشيخ الصدوق، والمفيد والطوسي والمحقق الحلي والشهيدين وصاحب الجواهر وغيرهم.

لكن بعض الفقهاء المتاخرين أضافوا كراهة إجراء العقد حين يكون القمر في (المحاق) آخر الشهر، حيث ينمحق ضوء الهلال، ليلة 28، 29، 30، حيث وردت رواية مرسلة أنه (يكره التزويج في محاق الشهر)[5]  ورواية أخرى عن الإمام الهادي (عليه السلام).

ثم أضاف فقهاء آخرون كراهة إجراء العقد في كوامل الشهر، وهي سبعة أيام في كل شهر (25,24,21,16,13,5,3) لورود روايات تعتبرها أياماً نحسة. لكن لا توجد رواية تشير إلى كراهة الزواج فيها.

في مقابل ذلك هناك روايات تدعو الإنسان إلى التوكل على الله، والتسلّح بالدعاء، وآيات القرآن، ودفع الصدقة، وعدم التطيّر والتشاؤم، وعدم الاهتمام بما يثار حول نحوسة بعض الأيام.

على أن ما ذكره الفقهاء هو حول إجراء عقد الزواج، أما الزِّفاف والدخول على الزوجة، فلم يذكروا كراهته في تلك الأوقات، كما يتضح من تعدادهم لمستحبات الدخول على الزوجة، إلا أن يتحدّ وقت العقد مع وقت العُرْس.

وبهذا لا داعي للتقيّد بحذر الاجتناب من بعض الليالي لاختيار ليلة العُرْس والزِّفاف، خاصة مع ما يجده الناس من حرج في إتمام ترتيبات الزِّفاف، من حجز مكان مناسب، وإنجاز الاستعدادات المختلفة.

وليمة العُرْس:

يستحب الإطعام عند التزويج فقد روي عن الإمام علي الرضا (: أن النجاشي لما خطب رسول الله آمنة بنت أبي سفيان فزوجه، دعا بطعام ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن من سنن المرسلين الإطعام عند التزويج"[6] .

وروى أحمد من حديث بريدة قال: "لما خطب علي فاطمة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه لابد للعروس من وليمة"[7]  وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج: "أولم ولو بشاة"[8]  وأخرج الطبراني من حديث أسماء بنت عميس قالت: "لقد أولم علي بفاطمة فما كانت وليمة في ذلك الزمان أفضل من وليمته، رهن درعه عند يهودي بشطر شعير"[9] .

فالوليمة عند الزواج سنة مستحبة عند جمهور العلماء، وهو مشهور مذهبي المالكية والحنابلة، ورأي بعض الشافعية، وفي قول لمالك والمنصوص في الأم للشافعي ورأي الظاهرية: أن الوليمة واجبة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعبد الرحمن بن عوف: "أولم ولو بشاة" وظاهر الأمر الوجوب[10] .

وإجابة الدعوة إلى الوليمة مستحبة في مذهب الشيعة، أما جمهور علماء السنة فيرون: أن الإجابة إلى الوليمة واجبة وجوباً عينياً عند المالكية والشافعية على المذهب، والحنابلة، حيث لا عذر من نحو برد وحر وشغل، لحديث: "ومن دُعي إلى وليمة ولم يجب فقد عصى أبا القاسم" وحديث: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة عرس فليأتها". والإجابة واجبة حتى على الصائم، لكن لا يلزمه الأكل[11] .

وما ينبغي التنبيه إليه: هو ما يحصل في أكثر ولائم العُرْس من مظاهر إسراف وتبذير، للتفاخر بذلك، ولأن أسلوب تقديم طعام الولائم وتناوله في مجتمعاتنا، لا يزال بالطريقة القديمة، حيث تقدم صحون الطعام كبيرة مملؤة لعدد قليل من الأشخاص، فيأكلون منها مقداراً بسيطاً ثم يُرمى الباقي. وسمعت من عدة مصادر مطلعة في مجتمعنا أنه غالباً ما تصل نسبة الكمية الزائدة من ولائم الزواج إلى الثلث وقد تبلغ النصف، ويكون مصيرها الإلقاء في البحر أو القمامة!!

إن لم يكن هذا مصداقاً للتبذير والإسراف، فما هو التبذير والإسراف إذاً؟

يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾[12]  ويقول تعالى: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[13] .

مراسيم الزِّفاف:

يعبّر أهالي العروسين وأصدقاؤهما عن البهجة والسرور ليلة العُرْس، عبر مراسيم احتفائية يتعارف عليها كل مجتمع من المجتمعات، كما يجتهد العروسان في إظهار جمالهما وأناقتهما أمام المحتفين، وخاصة بالنسبة للمرأة العروس. يقول أحد الباحثين الاجتماعيين: يوم الزِّفاف هو اليوم الوحيد الذي تضمن فيه العروس أن تتركز جميع الأنظار عليها فقط، لذلك تحرص كل الحرص على أن تكون في هذا اليوم أجمل من أي وقت آخر في حياتها، سبب واحد فقط يجعل كل إمرأة تشعر أن يوم زفافها هو أجمل وأسعد يوم في حياتها،ويجعلها تعيش حياتها كلها على ذكرى هذا اليوم، وكأنها لم تر السعادة الحقيقية قبله أو بعده، هذا السبب ليس لأنها حققت في هذا اليوم الحلم الجميل الذي كانت تحلم به طوال السنوات السابقة، أو لأنها أصبحت سيدة بيت مستقلة، بل لأنها كانت أجمل من أي يوم آخر في حياتها قبل الزواج وبعده، ولأنها كانت ـ وربما لأول مرة ـ أجمل واحدة بين جميع الموجودات، وأكثر واحدة تركزت عليها الأنظار، فالسعادة كلها في نظر المرأة لا تتعدى هذه الإحساسات[14] .

وإذا كان من الطبيعي وجود مراسيم إحتفاء بليلة العُرْس، وتعاليم الشرع تشجّع على ذلك، فإن ما تعاني منه بعض مجتمعاتنا اليوم هو المبالغة في أنماط هذه المراسيم والأعراف، حتى تحّولت إلى عبء يرهق كاهل العروسين وعائلتيهما، إنها لم تعد مراسيم إحتفاء رمزي تفيض فيها المشاعر والأحاسيس، وتزخر بقيم المودة والتضامن الاجتماعي، بل أصبحت ذات متطلبات شاقة مكلفة، من الناحية الاقتصادية والعملية.

فتكاليف الزواج لها ثلاث مصاريف:

الأول: المهر وملحقاته.

الثاني: تأثيث المنزل.

الثالث: نفقات مراسيم الإحتفاء ليلة العُرْس.

وغالباً ما يكون هذا المصرف الثالث أكثر استهلاكاً من المصرفين الآخرين، مع فارق أن ما يُنفق في المهر أو التأثيث المنزلي، سيبقى للزوجين، بينما لا يستفيدان مما ينفق على مراسيم الزواج إلا المظهر الإحتفائي، والسمعة التي يُتفاخر بها.

وكأمثلة ونماذج لبعض نفقات هذه المراسيم في مجتمعنا نذكر ما يلي:

هناك بطاقات الدعوة، وكلفة البطاقة الواحدة من المستوى العادي خمسة ريالات، وترتفع قيمتها في بعض أشكالها الفخمة لتصل إلى ما يزيد على العشرين ريالاً!!

وصالات الأفراح ذات المستوى العادي يصل إيجارها إلى عشرين ألف ريال أما في الفنادق الفخمة فتصل إلى ستين ألف ريال أو أكثر تبعاً لعدد المدعوين!!

وإيجار (الكوشة) وهي المنصة التي تجلس عليها العروس أثناء الحفل في المستوى العادي يصل إلى ثلاثة الآف ريال، وترتفع في مستوياتها المتقدمة إلى عشرة الآف ريال!!

ومكافئة المرأة المنشدة التي تقرأ المدائح والأناشيد في الاحتفال النسائي تبلغ في المتوسط أربعة الآف ريال، وقد تصل إلى عشرة الآف ريال!!

وتصوير العروس فوتوغرافياً في الأستوديو قبل الحفل قيمته ألف وخمسمائة ريال!! وتصوير الحفل بالفيديو كلفته حوالي ألفين وخمسمائة ريال!!

هذا عدا قيمة أو إيجار فستان العُرْس، وأسعار المرطبات، وقيمة (كيكة) العروس والتي تبلغ ألفي ريال في صالات الأفراح!!

يقول الدكتوران أبو بكر أحمد باقادر ويحي تركي الخزرج، أستاذا علم الاجتماع بجامعة الملك عبد العزيز في جدة، في دراستهما الميدانية الاستطلاعية عن تكاليف الزواج في التسعينات (مدينة جدة نموذجاً):

"تحول كل ما يتعلق بالزِّفاف، وتأسيس الحياة الزوجية من كونه نشاطاً يهم المجتمع المحلي والجوار، ومن ثم ما يستلزم ذلك من تكافل وتفاهم، ليصبح نشاطاً اقتصادياً ذا نزعة تجارية بحتة، ولّد دون مبالغة ما يمكن أن نسميه بصناعة الزِّفاف، إن حجم المتاجر وانتشارها التي تعمل في مستلزمات وكماليات حفلات الزِّفاف كبير، ولقد ولدت هذه الصناعة دوافع ومبررات الاستهلاك البذخي من ناحية، وفرضت أوجه صرف لم تكن في الحسبان في الماضي القريب.. وهذا التحول أدى إلى تأخير الشباب موضوع الزواج، حتى يتسنى لهم الصرف على ليلة العمر، وما يتبعها من تبعات، بل وتفكير بعضهم إلى الاستدانة من البنوك أو الحصول على مساعدات من مؤسسات خيرية.."[15] .

مستحبات الزِّفاف:

ذكر الفقهاء بعض المستحبات لدخول الزوج على زوجته ليلة العُرْس منها:

الوضوء: بأن يتوضأ كل منهما.

وصلاة ركعتين قربة إلى الله تعالى، وأن يدعو كل منهما بعد الصلاة بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه وآله، وطلب الألفة والتوفيق في حياتهما الزوجية. ومن الأدعية المأثورة هنا: "اللهم أرزقني ألفتها وودها ورضاها بي، وأرضني بها، وأحسن بيننا بأحسن اجتماع، وأنفس إئتلاف، فإنك تحب الحلال، وتكره الحرام"[16]  وهو دعاء علّمه الإمام محمد الباقر (عليه السلام) لأحد أصحابه.

وأن يضع الزوج يده على رأس زوجته مستقبل القبلة ويدعو الله تعالى طالباً بركته وتوفيقه، ويدعو بالدعاء المأثور المروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): "اللهم على كتابك تزوجتها، وفي أمانتك أخذتها، وبكلماتك استحللت فرجها، فإن قضيت في رحمها شيئاً فاجعله مسلماً سويّاً، ولا تجعله شرك الشيطان"[17] .

وجاء في مصادر أهل السنة عن أبي سعيد مولى أبي أسيد أن عبد الله بن مسعود وأبا ذر وحذيفة وغيرهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا له: "إذا دخلت على أهلك، فصل ركعتين، ثم خذ رأس أهلك، فقل: اللهم بارك لي في أهلي، وبارك لأهلي فـيّ، وأرزقهم مني، و أرزقني منهم".

وروى أبو داود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعاء التالي: "اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما جبلت عليه، وأعوذ بك من شرها ومن شر ما جبلت عليه"[18] .

وواضح أن هذه المستحبات تلفت نظر الزوجين وهما في اللحظات الأولى لبناء حياتهما الزوجية المشتركة، إلى البعد الديني في علاقتهما، والى الارتباط بالله تعالى والتوجه إليه، مما يؤكد في نفسيهما الثقة والاطمئنان، واستحضار القيم الخيّرة، ويجعلهما مشمولين بتوفيق الله تعالى وبركته للنجاح والسعادة.

احتفالات الأعراس:

من الطبيعي أن تبعث مناسبة الزواج مشاعر الفرح والسرور في نفس الزوجين وأفراد عائليتهما، وأوساط المحبين لهما والمحيطين بهما، ولا بد وأن تكون هناك وسائل وأساليب للتعبير عن تلك المشاعر والأحاسيس الجيّاشة، من هنا تعارفت المجتمعات على تقاليد وأعراف للاحتفاء بمناسبة الزواج، تتيح الفرصة لإظهار مشاعر الفرح والبهجة.

وقد شجع الإسلام على الاحتفاء بمناسبة الزواج كما وردفي بعض الأحاديث، ومن خلال سيرة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، ونكتفي بمثال واحد، هو ما تناقلته بعض كتب السير والتاريخ عن وقائع الاحتفال بزفاف السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى زوجها الإمام علي بن أبي طالب(، ذلك الاحتفال البهيج الذي كان تحت رعاية رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم). وقد أورد الدكتور الشيخ محمد عبده يماني صورة مختصرة عن ذلك الاحتفال في كتابه (إنها فاطمة الزهراء) ننقلها عنه:

"جاء الموعد المتفق عليه للزفاف، وقد احتفل بنو عبد المطلب بهذا الزواج، فقد جاء حمزة (رضي الله عنه) - عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعم علي كرم الله وجهه - بشارفين - جملين - فنحرهما وأطعم الناس.

وكانت وليمة في ذلك الزمان من أفضل الولائم على الإطلاق، فإنها وليمة أول المسلمين من الفتيان، وبنت المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولما انتهى الناس وفرغوا من الطعام أتى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ببغلته الشهباء، وثنى عليها قطيفة، وقال لفاطمة: اركبي، وأمر سلمان أن يقود بها ومشى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خلفها، ومعه حمزة وبنو هاشم، مشهرين سيوفهم، وأمر بنات عبد المطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة (رضي الله عنها) وأن يفرحن ويرتجزن ويكبرن، ويحمدن ولا يقلن إلا ما يرضي الله.

فأنشأت أم سلمة ترتجز وتقول:

سرن بعون الله جاراتي

واشكرنه في كل حالات

واذكرن ما أنعم رب العلا

من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد

أنعشنا رب السماوات

سرن مع خير نساء الورى

تفدى بعمات وخالات

يا بنت من فضله ذو العلا

بالوحي منه و الرسالات[19] 

وأورد ابن شهراشوب المازندراني (توفي 588) في مناقب آل أبي طالب مقاطع أخرى من الرجز لغير أم سلمة ثم قال: وكانت النسوة يرجعن أول بيت من كل رجز، ثم يكبرن[20] .

الغناء في الأعراس:

اختلف فقهاء مذاهب أهل السنة في حكم الغناء، فذهب جمهور فقهائهم إلى أن استماع الغناء يكون محرماً إذا صاحبه منكر، وإذا خشي أن يؤدي إلى المنكر، وإذا كان يؤدي إلى ترك واجب من الواجبات. أما إذا تجرد من ذلك، وكان بقصد الترويح عن النفس فهو محل خلاف، أجازه بعضهم ومنعه آخرون.

فالحنفية وبعض الحنابلة اعتبروه حراماً واستدلوا بقوله تعالى ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[21]  قال ابن عباس وابن مسعود: لهو الحديث هو الغناء. وبحديث أبي أمامة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (نهى عن بيع المغنيات، وعن شرائهن، وعن كسبهن، وعن أكل أثمانهن).

وذهب الشافعية والمالكية وبعض الحنابلة إلى أنه مكروه.

وذهب بعض الحنابلة كأبي بكر الخلاّل وأبي بكر عبد العزيز، وكذلك الغزالي من الشافعية إلى إباحته[22] .

أما فقهاء الشيعة فقد أجمعوا على تحريمه، للأحاديث الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[23]  أنه الغناء، وكذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أنه الغناء، وما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾[24]  أنه الغناء، وما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾[25]  أنه ترك استماع الغناء. وأحاديث عديدة في هذا السياق[26] .

هذا بالنسبة لحكم الغناء بشكل عام، وأما الغناء في الأعراس، فقد أجازه جمهور فقهاء أهل السنة قال السيد سابق في فقه السنة:

"ومما أباحه الإسلام وحبب فيه، الغناء عند الزواج، ترويحاً للنفوس، وتنشيطاً لها باللهو البريء. ويجب أن يخلو من المجون، والخلاعة، والميوعة، وفحش القول وهُجره.

فعن عامر بن سعد (رضي الله عنه) قال: دخلت على قرظة بن كعب، وأبي مسعود الأنصاري في عرس، وإذا جوار يغنين، فقلت: أنتما صاحبا رسول الله، ومن أهل بدر - يفعل هذا عندكم!! فقالا: (إن شئت فاسمع معنا، وإن شئت فأذهب، قد رخّص لنا في اللهو عند العرس". رواه النسائي والحاكم وصححه.

وزَفّت السيدة عائشة (رضي الله عنها) الفارعة بنت أسعد، وسارت معها في زفافها إلى بيت زوجها - نبيط بن جابر الأنصاري - فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "يا عائشة ما كان معكم لهو ؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو". رواه البخاري وأحمد وغيرهما.

وفي بعض روايات هذا الحديث أنه قال: "فهل بعثتم معها جارية تضرب بالدّف، وتغني؟". قالت عائشة: تقول ماذا يا رسول الله ؟ قال: تقول:

فحيونا نُحَيِّيكُمْ

أتيناكم أتيناكم

ما حلت بواديكم

ولولا الذهب الأحمر

ما سمنت عذاريكم[27] 

ولولا الحنطة السمراء

أما فقهاء الشيعة فالمشهور بينهم شهرة واسعة، استثناء الغناء بالنسبة للنساء فقط في حفلات الأعراس من التحريم، بشرط أن لا يصاحبه شيء من المحرمات، كاستماع الرجال الأجانب، أو اشتمال الغناء على الباطل، أو استخدام آلات اللهو وأساليبه فيه. لكن قسماً من فقهاء الشيعة يرفضون هذا الاستثناء، ويعتبرون الغناء في الأعراس مشمولاً بالحرمة.

من القائلين بالجواز:

كما تقدم فإن جواز الغناء في الأعراس هو رأي المشهور من فقهاء الشيعة، قال الشيخ الأنصاري في المكاسب: "غناء المغنية في الأعراس إذا لم يكتنف بها محرم آخر: من التكلم بالأباطيل، واللعب بآلات الملاهي المحرمة، ودخول الرجال على النساء. والمشهور استثناؤه - أي من التحريم - للخبرين عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله - الصادق (عليه السلام) - عن كسب المغنيات ؟ فقال: التي يدخل عليها الرجال حرام، والتي تدعى إلى الأعراس لا بأس به. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أجر المغنية التي تزف العرايس ليس به بأس. ونحوهما ثالث عنه أيضاً، وإباحة الأجر لازمة لإباحة الفعل"[28] .

وذهب صاحب الجواهر إلى الجواز أيضاً وكذلك الشيخ يوسف البحراني في الحدائق.

وممن يرى جواز الغناء في الأعراس من الفقهاء المعاصرين السيد محمد الشيرازي، والذي يرى أيضاً أن الغناء في الأعراس جائز حتى إذا كان الغناء في شريط أو صندوق صوت مالم يقترن بحرام آخر، وكذلك جواز التصفيق في الأعراس، بل مطلقاً، وجواز رقص النساء للنساء في الأعراس، وأن إباحة الغناء في الأعراس لا تختص بليلة الزفاف، وإنما تشمل الأيام والليالي التي تحف بها[29] .

وممن يرى ذلك السيد الخوئي، والسيد السبزواري، والسيد الروحاني، والشيخ محمد أمين زين الدين، والسيد الخامنئي والذي يرى أنه: "لا بأس في التغني للنساء في خصوص مجالس زفاف العروس، ولا مانع من استخدامهن آلات العزف في حال التغني في خصوص تلك المجالس على النحو المتعارف فيها. ولا يبعد جواز استعمال الآلات الموسيقية لعزف الموسيقى اللهوية المطربة فيما إذا كان مصحوباً بالتغني في مجالس زفاف العروس"[30] .

لكن فقهاء آخرين ومنهم السيد السيستاني يستشكل في استثناء غناء النساء في الأعراس من الحرمة، ويرى أن الأحوط لزوماً تركه حتى في ليلة الزفاف.

مراعاة الحجاب والعفة:

في غمرة أفراح احتفالات الزواج، عادة ما يحصل شيء من التهاون والتساهل في الالتزام بالحدود الشرعية، فالنساء المشاركات من أهالي العروسين ومحيطهما، عادة ما يكنَّ في أبهى حلل الزينة والجمال، كما أن الرجال والشباب المشاركين غالباً ما يهتمون بأناقتهم ومظاهرهم في حفلات الزواج. وهنا لا بد من رعاية الحجاب من قبل النساء، وعدم إظهار أي نوع من أنواع الإثارة واستعراض المفاتن، وكذلك بالنسبة للرجال عليهم غض البصر، والابتعاد عن أجواء الإثارة، وينبغي اجتناب الاختلاط، والحذر من بعض التجمعات الشبابية غير المنضبطة التي تستغل مثل هذه المناسبات، وقد نشأت أخيراً بعض العادات المخالفة لأجواء الحشمة والعفاف، مثل أن تزّف العروس إلى صالة الاحتفال ويدخل معها بعض إخوتها وأقربائها وسط النساء المشاركات، بمبرر إظهار معزة العروس عند أهلها، لكن ذلك ليس صحيحاً من الناحية الشرعية، إلا أن يتقيد كل النساء الحاضرات بحجابهن وحشمتهن، وهو أمر صعب في الاجتماعات النسائية لمثل هذه المناسبات.

ومن الظواهر المخالفة للشرع استخدام مكبرات الصوت في حفلات النساء بحيث تصل أصواتهن إلى الخارج، ويسمع غناءهن وأناشيدهن الرجال الأجانب، ولا مانع من استخدام مكبرات الصوت ولكن في حدود المكان الخاص بالنساء.

وهناك ظاهرة تصوير الحفلات النسائية فوتوغرافياً أو بالفيديو، ولا مانع من ذلك ولكن الإشكال في تسرّب الصور والأشرطة، ورؤيتها من قبل الرجال الأجانب.

إن عدم مراعاة الأحكام الشرعية على هذا الصعيد ليس فقط موجباً للإثم وارتكاب الحرام، وإنما قد يكون سبباً لمشاكل اجتماعية وأخلاقية.

إرهاق العروسين:

المفروض تهيئة الأجواء المناسبة لتوفير أكبر قدر من الراحة والارتياح النفسي والجسمي للعروسين، حتى يلتقيا ليلة زفافهما بكامل نشاطهما النفسي والجسمي، لكن الملاحظ إثقال كاهلهما بالعديد من المراسيم والعادات، والتي تستغرق منهما وخاصة من العروس الفتاة وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً، حيث تقضي ساعات انتظار في صالون التجميل، تصل في بعض الأحيان من ثلاث إلى خمس ساعات، ثم تصرف وقتاً آخر في استوديوهات التصوير، من ساعة إلى ساعتين، ثم تمكث عدة ساعات ضمن برنامج الاحتفال، وهكذا تزف إلى زوجها بعد حوالي ست ساعات، في أقل التقادير، وقد تبلغ عشر ساعات، وتبذل فيها الكثير من الجهد النفسي، والعناء الجسمي، الذي تستلزمه حالة الانتظار ومقابلة الناس المهنئين، والترحيب بهم.

وهكذا الحال بالنسبة للزوج لكن بنسبة أقل، إن إرهاق العروسين بمثل هذه العادات المكلفة، له نتائج سلبية في كثير من الأحيان. وقد لاحظت الجهات الطبية أن البعض منهم يصاب بأزمة ربوية، أو ارتكاريا، أو زكام، أو لون من ألوان الحساسية، أو حالة من الإعياء والتعب الشديد.

الزواج الجماعي:

قبل عقد من الزمن ظهرت في مجتمعنا عادة طيبة، وسنة حسنة، هي انبثاق لجنة أهلية في كل منطقة، تتصدى لتنسيق حفل موحد للمتزوجين في تلك المنطقة، تحت عنوان مهرجان الزواج الجماعي.

وتتحدد ليلة معينة، وتقوم لجنة المهرجان بنشر الإعلانات وتوزيع الدعوات، وتهيئ مكاناً واسعاً، وتُعد وليمة الإطعام، ويجتمع العرسان كلهم ضمن حفل موحد، يحيط بهم أهاليهم، وجميع أبناء بلدتهم، ويكون هناك برنامج مفيد للاحتفال، تلقى فيه الكلمات والأناشيد والأشعار، وبعض العروض المسرحية، ثم يزف العرسان، وتعيش البلدة كلها فرحاً وبهجة ونشاطاً عاماً.

وتؤدي هذه الظاهرة الرائعة أغراضاً عديدة، حيث تنخفض فيها الكلفة المادية، فيدفع كل عروس بين ستة إلى ثمانية آلاف ريال، بينما ترتفع الكلفة لو تزوج بمفرده إلى عشرين ألف ريال على الأقل.

كما أنها توفر الجهد على المتزوج وأهله، فيحضرون الحفل كضيوف، لا يتحملون أي مسئولية عملية، لوجود لجان عاملة ضمن المهرجان، فمثلاً مهرجان الزواج الجماعي في صفوى، يعمل ضمن لجانه المختلفة 850 شخصاً متطوعون من أبناء المجتمع.

كذلك فإنه يشكل مظهراً رائعاً لتعاون المجتمع وتماسكه، وإطاراً مفيداً لتنظيم الطاقات والجهود.

فينبغي تشجيع ظاهرة مهرجانات الزواج الجماعي، وعدم الالتفات إلى الأفكار السلبية، التي تعتبره خاصاً بذوي الدخل المحدود، وأنه لا يليق بالمتمكنين مالياً أن يتزوجوا ضمن المهرجان، أو أن المتزوج وأهله لا يشعرون بخصوصيتهم حينما يتم الزواج بشكل جماعي. إنها أفكار سلبية تحرم المجتمع من فوائد عظيمة كبيرة، وتكرّس الحالة الطبقية، والأعراف المتكلّفة.

العدد (31) السنة التاسعة، الربع الرابع 2003م
[1] سورة الصافات/ آية 94.
[2] ابن منظور/ لسان العرب ج3 ص32.
[3] المصدر السابق ج4 ص733.
[4] الحر العاملي: محمد بن الحسن/ وسائل الشيعة/حديث رقم25173.
[5] المصدر السابق/حديث رقم 25174.
[6] المصدر السابق/حديث رقم 25121.
[7] ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي/ فتح الباري ج9 ص287.
[8] البخاري/محمد بن إسماعيل/صحيح البخاري/حديث قم5167.
[9] ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي/ فتح الباري ج9 ص299.
[10] الزحيلي: الدكتور وهبة/الفقه الإسلامي وأدلته ج7 ص125.
[11] المصدر السابق ص126.
[12] سورة الإسراء/ آية 27.
[13] سورة الأعراف/ آية 31.
[14] رفعت: محمد/ ألف باء الحياة الزوجية ص61. دار الفكر العربي/بيروت1996م.
[15] المكتب التنفيذي لمجلس وزراء العمل والشؤون الاجتماعية بدول مجلس التعاون لدول الخليج/ دعم الأسرة في مجتمع متغير ص595/البحرين/ الطبعة الأولى 1994.
[16] الحر العاملي: محمد بن الحسن/وسائل الشيعة/حديث رقم 5176.
[17] المصدر السابق/حديث رقم 25172.
[18] الزحيلي: الدكتور وهبة/ الفقه الإسلامي وأدلته/ج7 ص128.
[19] يماني: الدكتور محمد عبده/ إنها فاطمة الزهراء ص161- دار المنار للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 1996م- بيروت.
[20] ابن شهراشوب المازندراني: محمد بن علي/ مناقب آل أبي طالب ج3 ص404- الطبعة الثانية 1991م- دار الأضواء- بيروت.
[21] سورة لقمان/ آية 6. -.
[22] الموسوعة الفقهية- الكويت ج4 ص90-91.
[23] سورة الحج/ آية 30.
[24] سورة الفرقان/ آية 72.
[25] سورة الفرقان/ آية 72.
[26] الأنصاري: الشيخ مرتضى/ المكاسب- تحقيق السيد محمد كلانتر ج3 ص159- الطبعة الأولى 1990م- مؤسسة النور- بيروت.
[27] السيد سابق/ فقه السنة ج2 ص 231-232- دار الكتاب العربي -الطبعة الثالثة 1977م- بيروت.
[28] الأنصاري: الشيخ مرتضى/ المكاسب- تحقيق السيد محمد كلانتر ج3 ص299- الطبعة الأولى 1990م- مؤسسة النور- بيروت.
[29] الشيرازي: السيد محمد/ الفقه- المكاسب المحرمة ج1 ص251- الطبعة الأولى 1996م - بيروت.
[30] الخامنئي: السيد علي/ أجوبة الاستفتاءات/ الجزء الثاني- المعاملات/ مسألة 49-50.