منية الطالبين في تفسير القرآن المبين عصارة خبرة علمية وثمرة مسيرة حافلة

حين تتواصل مسيرة الانسان العلمية، وتتراكم تجربته وخبرته المعرفية، يصبح رأيه أكثر نضجاً، وفهمه أعمق إدراكاً، ويكون انتاجه العلمي حينئذٍ عصارة لخبرته، وخلاصة لتجربته.

مجلة البصائر

من هنا تلقفت بلهفة وشوق، الاجزاء الأربعة التي صدرت من تفسير القرآن الكريم لسماحة الفقيه المحقق المرجع الديني الشيخ جعفر السبحاني "دام ظله"، تحت عنوان: «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين».

فالفقيه السبحاني ولد ونشأ في احضان العلم والمعرفة، ولم يصرف شيئا من وقته واهتمامه، طوال حياته الشريفة، التي تربو على ثمانية عقود من الزمن – اطال الله عمره – خارج اطار الدرس والتدريس، والبحث والتحقيق، وما يتعلق بذلك من وظائف ومهام، متصفاً بالجدية والنشاط، والتنظيم الدقيق لوقته، حتى لا يضيع شيء منه فيما لا يخدم هدفه ومبتغاه، كما يعرف ذلك عنه كل من عايشه أو اقترب منه.

وقد تنوعت حقول اهتماماته العلمية، فلم يصرفه تركيزه على الفقه والأصول، كما تقتضي الاجواء الحوزوية، عن الاهتمام بالمعارف الاخرى، دون ان يؤثر ذلك على تضلعه في الفقه والاصول، حتى اصبح درسه فيهما من ابرز دروس البحث الخارج في الحوزة العلمية في قم المقدسة. كما تشهد مؤلفاته وتقارير بحثه المطبوعة، برسوخ قدمه، وعلو كعبه، في علمي الفقه والاصول.

لكنه إلى جانب ذلك درس الفلسفة، وقرر أهم اراء استاذه الفيلسوف السيد محمد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان، في كتابه المطبوع «اصول الفلسفة»، دون ان يمنعه التحفظ السائد آنذاك على دراسة الفلسفة في الحوزة العلمية.

وأولى المحقق السبحاني اهتماما كبيرا بعلم الكلام والأبحاث العقدية، في وقت تشكو فيه الساحة الاسلامية من فراغ خطير على هذا الصعيد، حيث ينصب اهتمام معظم الفقهاء والمجتهدين على الفقه الاصغر، المتمثل في مسائل العبادات والمعاملات، ولا يولون الفقه الاكبر الذي يعنى بقضايا العقيدة وأصول الدين، ما يستحق من العناية والاهتمام، مع كل ما يعصف بالفكر الديني من تحديات خطيرة، بسبب التيارات المادية العاصفة، والاختلافات المذهبية المتأججة.

كان الفقيه السبحاني في طليعة من استجاب لهذا التحدي الفكري الخطير، فقد تصدى بمؤازرة جمع من الفضلاء، لتأسيس مجلة «دروس من مكتب الاسلام» سنة 1378هـ /1958م، وهي مجلة شهرية منتظمة تعنى بشؤون الفكر والثقافة الاسلامية، وتجيب على مختلف التساؤلات التي تدور في اوساط الشباب والمثقفين، صدر منها لحد الآن (579) عدداً.

وقد صدرت لسماحة الشيخ السبحاني مجموعة قيمة من المؤلفات والابحاث الكلامية العقدية، اصبحت مرجعا للباحثين، ومنهجا دراسيا في الاوساط العلمية، ومن ابرزها «محاضرات في الالهيات» في اربعة اجزاء. و «بحوث في الملل والنحل» في ثمانية اجزاء. و«رسائل ومقالات» في ستة اجزاء. و«الاعتصام بالكتاب والسنة»، و«الانصاف في مسائل دام فيها الخلاف» في ثلاثة اجزاء.

حتى لا تكاد تجد مسألة عقدية لم يفرد لها الشيخ السبحاني كتابا أو بحثا مستوعبا.

وبعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران، انشأ «مؤسسة الامام الصادق » التعليمية التحقيقية، للبحوث والدراسات الكلامية، سنة 1400هـ / 1980م وتقوم هذه المؤسسة الفريدة من نوعها في الحوزة العلمية، بإعداد الكوادر والكفاءات المتخصصة في علم الكلام، من اوساط طلاب العلوم الدينية، حيث تستقبل كل عام حوالي 200 طالبا، لتُسند اليهم بعد تخرجهم مهمة التدريس في الحوزة العلمية والجامعات، ومهام التبليغ الديني.

كما تقوم المؤسسة باحياء التراث الاسلامي عبر تحقيق ونشر مهمات الكتب العلمية الدينية، واصدار الكتب التي تعالج مختلف القضايا والتحديات الفكرية، كما تُعدّ الاجابات العلمية على مختلف التساؤلات والاستفسارات، التي تصل من شتى البقاع، حول مسائل العقيدة والفكر والتشريع الاسلامي.

وكان التطور الابرز في نشاط الشيخ السبحاني في مجال علم الكلام، تأسيس «معهد الكلام الإسلامي» سنة 1412هـ / 1992م واصدار مجلة «الكلام الإسلامي» سنة 1413هـ /1993م.

وفي ميدان التاريخ ومعرفة اعلام رجال الحديث والفكر والفقه، لسماحة الشيخ السبحاني صولات وجولات، فله دراسة علمية معمقة للسيرة النبوية الشريفة، تعتبر من افضل المصادر والمراجع المعاصرة، وقد طبعت في مجلدين كبيرين تحت عنوان «سيرة سيد المرسلين» وله ابحاث وكتابات عديدة، عن سير وحياة أئمة اهل البيت .

وقد اشرف على اصدار عدد من موسوعات التراجم، ضمن مؤسسته العلمية، منها: «الموسوعة الرجالية الميسرة»، و«موسوعة طبقات الفقهاء» في 16 جزءاً، و «معجم طبقات المتكلمين» في خمسة اجزاء.

وللشيخ السبحاني ابحاث ودراسات في علم الحديث والدراية والرواية، بعضها اصبح مقررا دراسيا في الحوزات العلمية.

ولم تشغله هذه الاهتمامات العلمية الجادة عن تذوق الشعر والادب، باللغتين العربية والفارسية، فهو يطرب للشعر البديع، والنثر الرشيق، وفي ذاكرته مخزون ثريٌّ من الشواهد والمقاطع المختارة من روائع انتاج كبار الادباء والشعراء، وقد قرأ لرواد الادب العربي المعاصر كطه حسين وعباس محمود العقاد وجبران خليل جبران وجورج جرداق، وقد انعكس ذوقه الادبي على كتابته ومحادثاته، فغالبا ما يستقبل زائريه الاثيرين عنده، أو يبدأ مكالمته الهاتفية معهم، بأبيات من الشعر للترحيب والثناء، وابداء الشوق والعتاب.

ولم يكن العلامة الكبير الشيخ محمد تقي التستري مبالغاً، حينما خاطب الشيخ السبحاني في تقريضه لاحد كتبه قائلا: «والعجب انكم رغم نشأتكم في ايران اخذتم بناصية اللغة العربية كأديب مصري أو بغدادي، فأتيتم بتعابير عصرية رائجة».

ورغم ان العلامة السبحاني لم يخض غمار العمل السياسي المباشر، إلا انه لم يكن بعيدا عن تطلعات شعبه في ثورته ضد النظام الشاهنشاهي البائد، بل هو من طبقة فضلاء الحوزة الداعمين لخط الثورة، ومن ابرز تلامذة قائد الثورة الامام الخميني الراحل، حيث حضر درسه الاصولي لسبع سنوات، وقرر ابحاثه الاصولية التي طبعت تحت عنوان «تهذيب الأصول» في ثلاثة أجزاء، سنة 1375هـ/ 1955م.

وبعد انتصار الثورة الاسلامية شارك سماحته في انتخابات «مجلس الخبراء لتدوين الدستور» ممثلا لاهالي محافظة أذربيجان الشرقية، وقد احرز المرتبة الاولى في محافظته، والثانية على مستوى ايران، بعد آية الله الطالقاني، وكانت مشاركته في الانتخابات نابعة من احساسه بالمسؤلية، وانطلاقا من وعيه السياسي، واستجابة لامر الامام الخميني له شخصيا بأداء وظيفته الشرعية، وتشهد محاضر تدوين القانون الاساسي بمشاركته الفاعلة، ودوره المؤثر في توجهات النقاش ضمن جلسات مجلس الخبراء، كما ظهر ذلك من اشادة رئيس المجلس السيد البهشتي.

ويكشف كتابه القيّم «معالم الحكومة الاسلامية» عن اهتمامه بالفكر والمسألة السياسية على مستوى التأصيل والتنظير.

هذه الجولة الخاطفة في آفاق المسيرة العلمية، والخبرة المعرفية، لسماحة آية الله السبحاني، اردت منها الكشف والتدليل على مبعث الأمل، ودافع التطلع، إلى المشروع الجديد، الذي يتوّج به الشيخ السبحاني مسيرته العلمية الرائدة، وحركته المعرفية المتواصلة، في خدمة الدين والعلم، هذا المشروع الجديد هو «منية الطالبين في تفسير القرآن المبين».

وعلاقة الشيخ السبحاني بهذا الحقل العلمي «تفسير القرآن»، ليست جديدة ولا طارئة، بل هي امتداد لصلة عميقة، لم تنقطع يوماً في حياته العلمية الدينية، بالتتلمذ على القرآن، واستنباط معارفه وأحكامه، ونشر مبادئه وقيمه السامية.

وكما كتب سماحته "دام ظله" في مقدمة تفسيره للجزء 28 من القرآن ا لكريم ما نصه: «ثم من فضل الله ومنته على عبده الفقير هو أني عشت مع القرآن الكريم قراءة وتفسيراً، مدة مديدة من عمري، منذ شبابي إلى هرمي، وقد الفت في تفسير القرآن موسوعتين باللغة العربية والفار سية، كما فسرت عددا كبيرا من سور القرآن الكريم، واما الآن فاني عازم – بما يسنح به العمر - على تفسير اجزاء القرآن الكريم».

لقد كان الشيخ السبحاني رائدا في تقديم انموذج علمي للتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، حيث اصدر عدة مجلدات من هذا التفسير تحت عنوان «مفاهيم القرآن» تناولت عددا من المواضيع والقضايا العقدية الاساسية في القرآن الكريم كالتوحيد والصفات الالهية والنبوة والإمامة والمعاد والحكومة الاسلامية وغيرها.

وقد اشاد عدد من كبار العلماء والمفكرين بهذه التجربة الرائدة في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وممن اشاد بها الفقيه المفكر السيد محمد باقر الصدر، والعلامة الفقيه الشيخ محمد جواد مغنية، والعلامة المحقق السيد مرتضى العسكري، والعلامة الفيلسوف الشيخ حسن الآملي، والمرجع الديني الشيخ مرتضى آل ياسين، والمرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي وآخرون من المراجع والعلماء والمفكرين.

وتشتمل قائمة مؤلفات الشيخ السبحاني التي تنوف على (250) كتاباً على عشرات الكتب العلمية حول القرآن الكريم ومعالجة موضوعاته.

وحين توظف هذه الخبرة العميقة، وتتوج هذه المسيرة الحافلة، بالعزم على كتابة تفسير كامل للقرآن الكريم، ألا يحق لنا أن نعقد الآمال والتطلعات على هذه العزيمة المباركة؟

ان الاجزاء الاربعة التي رشحت من قلم شيخنا السبحاني "دام ظله" من هذا التفسير الرائع، تؤكد صوابية هذه الآمال، وتبشّر بتحقق هذه التطلعات، وأن الساحة الفكرية الاسلامية تستقبل الآن مشروعا قرآنيا واعداً، يوفر فرصة رائعة لأبناء هذا الجيل من الأمة، في التعرف على معاني آيات القرآن الكريم، واستشفاف مضامينها، بما يواكب تطورات الحياة المعاصرة، ويستجيب للتحديات الفكرية القائمة، بلغة واضحة، واسلوب جذاب، بعيدا عن الاسهاب الممل، والاختصار المخل.

وسيجد من يطلع على الاجزاء الصادرة من هذا التفسير المميّز، كيف يوظّف الشيخ السبحاني خبرته وتجربته العلمية في مختلف حقول المعرفة، للغوص في اعماق معاني الآيات الكريمة، من اجل تقديم لآلئ مضامينها ناصعة مشرقة بين يدي القارئ الكريم.

فحينما تستبطن الآية معنى عقدياً، يبرزه ويجلّيه بدقة ووضوح.

وحين تشير الآية إلى حدث تاريخي، يسلط عليه الاضواء بما يخدم هدف الاية من اخذ العبرة والدروس.

وإذا تضمنت الآية حكما تشريعيا، ناقش اختلاف المذاهب والفقهاء في تشخيص ذلك الحكم.

وعندما تعالج الآية بعداً تربوياً اخلاقياً، يتناول مقاصدها في تزكية النفس وتقويم السلوك.

وهكذا يجد القارئ الكريم نفسه امام بحوث علمية مركّزة، وطرح معرفي مكثّف، بلغة عصرية واضحة مشرقة.

جزى الله شيخنا السبحاني خير الجزاء، وأطال عمره، ومتعه بالصحة والعافية، ليكمل هذا المشروع العظيم، ويواصل عطاءه في خدمة العلم والدين. والحمد لله رب العالمين.

 

حسن موسى الصفار

القطيف 10 شوال 1435هـ

مجلة المصباح (تعنى بالدراسات والأبحاث القرآنية تصدر عن الأمانة لعامة للعتبة الحسينية المقدسة ـ كربلاء ـ العراق). العدد العشرون ـ السنة الخامسة ـ شتاء (2015م ـ 1436ﻫ)، ص433.