الجهود الفردية للتنوير والتسامح مجدية ولكن لا تكفي

قبل أيام كان في مجلس سماحة الشيخ حسن الصفار بالقطيف أحد أصدقائه من كبار مشايخ المنطقة الوسطى ضيفاً، وهو الدكتور الشيخ عيسى الغيث، وهو مستشار لمعالي وزير العدل، وقاضٍ بمحكمة الرياض، وكان المجلس والصالة والقبو كلها متزاحمة بالحضور كَمًّا ونوعاً، وأعني كان الحضور نوعيًّا من حيث حضور عدد كبير من رجال دين أفاضل من أنحاء منطقة القطيف وأكاديميين ومثقفين وإعلاميين وصحفيين ومندوبين لصحف محلية لها انتشار جيد في مناطق المملكة.

وافتتح الندوة سماحة الشيخ حسن الصفار، بعد تلاوة آيات من القرآن الكريم، ثم كلمة الضيف الشيخ عيسى الغيث. فكانت الافتتاحية ثرية بالنقاط ذات الطابع الاجتماعي المتقعر والمزمن في هموم المجتمعات السعودية عامة، ولدى مجتمعات منطقة القطيف وبعض من شيعة الأحساء خاصة.

فكانت كلمة الشيخ الصفار مليئة بالشحنات الضوئية التي سلَّطها على معظم زوايا ما يعتلج بالنفوس المكلومة من خلال سياقاتها الترحيبية، ولَمَّحَ بالدعوة إلى تبني محاولة علاج هموم الطائفة الشيعية بالمملكة.

وكذلك كلمة الشيخ عيسى الغيث التي تميزت بعذوبة بساطة مفرداتها وسلاسة وانسياب إيقاعاتها واستحسان الحضور لها.

والمشايخ يعزفون عادة عن سماع التصفيق كملاذ لإبراز خلجات الناس - الحضور - والتعبير عنها، وإلا لكانت هاتان الكلمتان جديرتين بالتصفيق في تقديري المتواضع.

على أي حال، وبعد ذلك جاء دور المداخلات وعددها غير عادي، وربما نعزو ذلك لأهمية مكانة الضيف علميًّا ورسميًّا، والأهم من ذلك كانت معظم تلك المداخلات قد لامست الجروح، بل وكل مداخلة كانت لها نكهة خاصة، وذات شأن مختلف عن الأخرى، إلا أنها كلها تصبُّ في بوتقة واحدة، وهي هموم مكنونة في الصدور تتحدَّث بجرأة ووضوح وأمام شخصية غير عادية أيضا.

لقد تحدَّثت هذه المداخلات عن التمييز الطائفي والمذهبي والمناطقي، وبعضهم من إخواننا الإحسائيين، تحدثوا عن منعهم من بناء مسجد في الدمام والخبر، وحتى إيجاد أرض لمقبرة بدلاً من الذهاب بموتاهم للقطيف أو الأحساء لدفنهم.

وتحدَّث البعض عن السماح بمحكمة جعفرية للقطيف للأوقاف والمواريث بحيث تمتلك صلاحيات حقيقية. وهذه سبق أن كتبتُ عنها وعن غيرها من القضايا الحساسة لمجتمعاتنا في مقالات عديدة قبل سنوات وقبل شهور وأسابيع كالمطالبة بجامعة لمنطقة القطيف وبمستشفى تخصصي وغير ذلك.

وعموماً لقد طُرِحَتْ أمورٌ وشجون وهموم تنضح قيحاً لما تعانيه الطائفة الشيعية من الإقصاء والتمييز الطائفي والمناطقي.

وقد كتب غيري العديد من كتَّاب المنطقة عن هذه المطالب وغيرها قد تصل صفحاتها إلى عدد صفحات «الموسوعة البريطانية» بل ثمة شباب طالبوا وبإلحاح ومباشرة، فكان مصير تلك الجهود والمساعي - كما يبدو - أن ذهبت في سلة المهملات.

لقد وُضِعَتْ على عجل نقطة ضوء قد تناولتها الأقلام والصحافة والإعلام العربي والعالمي عن الأم التي خرجت من رحمها ثقافة التفجيرات والمفخخات والأحزمة الناسفة والانتحار لقتل الأبرياء في كل مكان في العالم العربي وغير العربي، لكي يذهب هؤلاء القتلة إلى الجنة «؟!!» كمكافأة لهم على قتل الأبرياء.

هذه الثقافة العدمية التي تُكلِّف أصحابها مئات الملايين من الدولارات سنويًّا لنشر دعوتهم العدمية، هذا الإخطبوط الثقافي العدمي المرعب قد أتانا من خارج سماوات الشريعة الإسلامية السمحاء، مما أفرز فتن وتمزق في العالم الإسلامي كله، حتى طال غباره وسمومه وشظاياه وجرائمه العالم الغربي، فشوَّه سمعة الإسلام، وقد تمادى في جرائمه حتى يومنا هذا، بكل وقاحةٍ وتحدٍّ أوقح، بدعوى أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، وأن أيديولوجيتهم هذه هي نهاية التاريخ كما قال الفيلسوف فوكوياما عن الرأسمالية، فأدَّت هذه الثقافة العدمية إلى قمع وظلم الأقليات في العالم العربي، تارة باضطهاد وقمع من منطلق عرقي، وتارة من منطلق قومي، وتارة من منطلق طائفي بغيض، ومن منطلق مناطقي، وهكذا دواليك، حسب ظروف المكان وحسب خصوبة الأرضية ومنطلقاتها، لزرع الثقافة العدمية والفتن والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد؛ لذا ترى وتلمس اليوم في العالم العربي خصوصاً أن الثقافة العدمية بدأت تُؤتي ثمارها بتمزق وتفكك البلاد العربية من هذه المنطلقات العدمية.

وهذا السودان يشهد على هذا التمزق بانفصال الجنوب عن شماله. وهذه منطقة الأكراد في شمال العراق قاب قوسين أو أدنى تنفصل عن العراق وهو شاهد آخر على هذا التمزق. وكذلك في جنوب اليمن هناك حراك قوي لافت للانفصال عن الشمال.

وهذه وتلك كلها حصيلة للاضطهاد والقمع والتمييز العرقي والقومي والطائفي والمناطقي، وردَّات فعل لهذه الثقافة العدمية والتكفيرية والتمييزية التي تجاهل خطورتها الكثير فجاء التفكك والانفصال.

ولذلك أقول: ربما يتأثر البعض فينا كردات فعل سلبية لهذا التمييز الطائفي والمناطقي والذي يتجلى في ممارسة حياتنا اليومية.

ولكنني واثق تماماً بأن الأكثرية الساحقة متمسكة بوحدة هذا الوطن العزيز وجغرافيته «حتى النخاع.. حتى النخاع».

وقد كانت ردود الشيخ الضيف جميلة في عمومها، بيد أنه لفت نظري في أحد ردوده بأن هؤلاء - ويقصد المتطرفين التكفيريين - مثلهم مثل التلاميذ المشاغبين، ولذا أصواتهم تعلو فوق الأصوات الكثيرة الخيِّرة، بينما ترى هؤلاء المشاغبين «قلة!».

وأقول: طالما أنهم «قلة» فلماذا نسمح لهم بالتمادي في نشر ثقافة العدم والتكفير والفتنة والتمييز الطائفي، ونقعد متفرجين على سماع هذه الغربان تنعق في بيوتنا وغرفنا وفي شوارعنا وعبر الخطب والكتيبات الصفراء في المكتبات وفي مواقع الإنترنت.

نعم هناك جهود كبيرة ومشكورة من بعض المشايخ ومن بعض الكتَّاب والمثقفين والأكاديميين المتنورين والتنويريين، يبذلون قصارى جهودهم في تنوير الناس بثقافة التسامح والتعاون والإخاء بين السنة والشيعة لخدمة رسالة الإسلام الحقة للنهوض بهذا الوطن إلى الأفضل موحَّداً قويًّا، ولكن تبقى تأثيرات ضخ هذه الثقافة الفاضلة التنويرية التسامحية محدودة التأثير الأفقي، وبطيئة في المشي والتمدد، إن لم تكن جماعية ومكونة من عقلاء وحكماء من مختلف الطيف في هذه البلاد سنة وشيعة.

ونسأل الله تعالى أن يجنب بلادنا من كيد الكائدين، وشرور تلك الفئة المتطرفة التكفيرية الظلامية وثقافتها العدمية، ويجنب بلادنا التمزق والفتن الطائفية.

وفق الله الجميع لخدمة هذا الوطن من أجل وحدته ورقيِّه نحو الأفضل والأجدى نفعاً لجميع فئات الشعب دون تمييز.

11/1/2011م
كاتب وصحفي- الشرقية - القطيف