حوار في القطيف

على المستوى الوطني والاجتماعي، ثمة حاجة ماسة لتعزيز الحوار وقيمه.. لأن مستوى التباينات والاحتقانات عديدة ومركبة ومتشعبة.. ولا يمكن تفكيك هذه الاحتقانات، ومعالجة التباينات بدون الحوارات الصريحة والمباشرة بين مختلف المكونات المذهبية والفكرية حول كل الموضوعات التي هي محل خلاف أو سوء فهم أو تباين..

وحده الحوار الصريح والواضح، هو الذي يعالج العديد من الاحتقانات والتباينات.. لأن الحوار الصريح، يعطي الفرصة لجميع الأطراف والأطياف والمكونات للتعريف بوجهة نظرها حول كل القضايا المختلف عليها..

أسوق هذا الكلام من أجل الإشادة بمستوى الحوار الصريح الذي جرى بين مجموعة من علماء ومثقفي الوطن من توجهات مذهبية مختلفة في المجلس العامر لفضيلة الشيخ حسن الصفار وهو يستضيف فضيلة الشيخ سعد البريك في زيارته الأسبوع الماضي لمدينة القطيف.. فمن الطبيعي أن تختلف وجهات نظر الحضور، وتتباين قناعاتهم التاريخية والفكرية والسياسية، وتتعدد المداخل التي يقترحها البعض لإنجاز مفهوم التعايش على المستويين الوطني والاجتماعي..

وفي سياق تأكيد وتعزيز خيار الحوار بين المسلمين بمختلف مذاهبهم، أود توضيح النقاط التالية:

الحوار بين المختلفين على مختلف المستويات لا يستهدف خلق التطابق في وجهات النظر، وإنما تنظيم الاختلافات والتعامل بمساواة في موضوعات الاختلاف..

فلا يوجد طرف قابض على الحقيقة الكاملة والهدى والآخر لا نصيب له منهما.. وإنما هو اختلاف وتباين في القناعات والأفكار والخيارات.. والحوار الصريح والمباشر، هو سبيلنا لتنظيم هذه الاختلافات والتباينات..

فاللقاء والحوار مع المختلف هو المطلوب، وينبغي أن تفتح أجواء الحوار على كل القضايا والموضوعات بعيدا عن المواقف المسبقة والآراء النمطية السائدة عن بعضنا البعض..

والمجتمع السعودي بكل فئاته وشرائحه، بحاجة إلى الحوار في مختلف دوائره، من أجل صياغة ثقافته الوطنية والاجتماعية على قاعدة الحوار والقبول والاعتراف بكل متطلبات التعدد الأفقي والعمودي الموجود في المجتمع السعودي..

وقبولنا بمبدأ الحوار، لا يعني بأي حال من الأحوال القبول التام بكل ما يقول الطرف الآخر.. نحن ينبغي أن نتحاور مع بعضنا البعض، ونحن ندرك أننا مختلفون ووجهات نظرنا ليست متطابقة..

لذلك فإننا نعتقد أن الحوار على كل المستويات وفي كل الدوائر، هو الضرورة الوطنية والاجتماعية، من أجل توسيع المساحات المشتركة وتنظيم تبايناتنا المختلفة..

يبدو من الكثير من النماذج والأمثلة على الحوارات بين أهل المذاهب الإسلامية، أن التاريخ بأحداثه ورجاله ومحطاته المختلفة، يشكل مادة دسمة لأي حوار بين مختلفين على الصعيد المذهبي..

لذلك لا يخلو أي حوار سواء بين علماء ومشايخ أو بين مثقفين وأدباء، حين الحديث عن طبيعة العلاقة بين المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم الفقهية، من حضور التاريخ وتقويم رجالاته، وما هو الموقف من أحداثه..

والذي أود أن أقوله في هذا السياق هو: إننا سنة وشيعة لا نستطيع أن نعيد عقارب الساعة إلى الوراء، كما أنه لا يمكن أن تتطابق وجهات النظر حول رجالات التاريخ وأحداثه..

لذلك فإنني أعتقد أن المطلوب ليس الاتفاق على موقف أو تقويم لأحداث التاريخ ورجالاته، وإنما المطلوب هو التزام كل طرف بعدم الإساءة إلى رموز ومقدسات الطرف الآخر..

فليس مطلوبا من أحد، أن تكون وجهة نظره حول أحداث التاريخ متطابقة، ولكن المطلوب من الجميع ومن مختلف المواقع هو احترام كل طرف رموز ومقدسات الطرف الآخر..

كما أنه من الضروري أن نلفت نظر الجميع إلى هذه الحقيقة: أن الاستغراق في أحداث التاريخ ومحطاته، لا يفضي إلى خلق تفاهم أو تعايش، وإنما يفضي إلى المزيد من النقاشات والجدالات التي لا تنتهي.. لذلك فإن الوعي بأحداث التاريخ، وعدم الاستغراق في خصوماته، هو الذي يساعدنا على بناء حاضرنا ومستقبلنا على أسس متينة وصلبة..

تشهد محافظة القطيف بكل مدنها وقراها، حراكا ثقافيا وأدبيا متميزا وفعالا.. ومن أهم مؤشراته عدد المنتديات الثقافية والأدبية فالمحافظة تحتضن العديد من المنتديات الثقافية والأدبية منها [الملتقى الثقافي – الثلاثاء الثقافي – الحوار الثقافي – الصفا الثقافي – الوسطية – سيهات الثقافي – القطيف الثقافي – حوار الحضارات]..

إضافة إلى منتديات نسائية منها: [منتدى تواصل – نون- إنسان]..

والمؤشر الثاني: حجم الإنتاج الثقافي والأدبي.. وهو من أهم المؤشرات لقياس مستوى الحركة الثقافية والأدبية في أي مجتمع ووطن..

وعلى هذا الصعيد فإن محافظة القطيف، تشهد تطورا ملحوظا في عملية الإنتاج الثقافي والأدبي.. فقد رصد الأستاذ عباس الشبركة أهم إصدارات المحافظة خلال السنين القليلة الماضية.. وجاء في رصده وبحثه أنه: في عام 2007 م بلغ عدد الإصدارات [225] كتابا، وفي عام 2008 م بلغ عدد الإصدارات [229] كتابا..

وفي عام 2009م بلغ عدد الإصدارات [253] كتابا..

والمؤشر الثالث: إصدار منتظم لمجلات فكرية وثقافية وتراثية.. فهناك مجلتان مهتمتان بالتراث والأدب في الخليج العربي.. ومجلتان فكريتان صدرتا قبل عقد ونصف العقد ولا زالت مستمرة، ومجلة متخصصة في القرآن وعلومه ومعارفه، ومجلة فقهية تعنى بالأبحاث الفقهية والأصولية..

أسوق كل هذه الأرقام، لأدعو المهتمين بشؤون الثقافة والأدب على المستوى الوطني، إلى الإنصات إلى هذا الحراك الثقافي والأدبي والتفاعل معه والتواصل مع شخوصه، حتى يتراكم الفعل الثقافي والأدبي في الوطن كله.. وكل هذه المعلومات ليست من أجل التفاخر لتأسيس نزعة نرجسية للذات أو للانحباس الضيق في مناطقنا ومدننا.. وإنما من أجل لفت الانتباه إلى الحركة الثقافية والأدبية التي تزخر بها هذه المحافظة ومنطقة أو محافظة بهذا الحراك والنشاط الثقافي والأدبي، تزخر بالكثير من النقاشات الفكرية والثقافية، وتتعدد فيها الأطياف والتوجهات الثقافية والاجتماعية، وتشهد تحولات ثقافية ومعرفية هامة، تتجاوز من خلالها الكثير من عناصر الرتابة واليباس الفكري والثقافي..

ومجتمع القطيف كغيره من المجتمعات، يحتضن العديد من المدارس والتوجهات والأطياف، لهذا فإن الإنصات إلى حراكه الثقافي، والتفاعل من مناشطه المتعددة، من الضرورات الوطنية، التي تسهم في تطوير وتزخيم الحركة الثقافية والأدبية في الوطن كله..

وكلمتي الموجزة إلى أهلي في القطيف هو: أن التميز أو التفوق الثقافي ينبغي أن يقود إلى تميز وتفوق أخلاقي.. فالاختلافات بكل عناوينها حالة طبيعية، وتساهم في إثراء المجتمع والوطن، ولكن الخلافات والنزاعات ولغة الاتهام والاتهام المضاد، تبدد حراكنا الثقافي والأدبي، وتضيع ما نصبوا إليه جميعا.. فليس عيبا أن تتعدد وجهات النظر، ولكن العيب كل العيب في سيادة لغة الاتهام وسوء الظن وخضوع جميع الأطراف والأطياف إلى مقتضياتهما..

وجود خلافات وتباينات عقدية أو ثقافية، في الأصول أم في الفروع بين السنة والشيعة، لا يبرر لأحد الافتئات والتعدي على الطرف الآخر..

والمواطنة بكل مضامينها الدستورية والحقوقية، هي الوعاء الذي يحتضن الجميع، ويصون حقوقهم.. والخلافات ليست مبررا للتعدي على الحقوق.. فالشيعي ينبغي أن يصون حقوق السني، والسني ينبغي أن يصون حقوق الشيعي.. والانتماء المذهبي بتبايناته وتناقضاته، ليس بديلا عن المواطنة.. ولا تعايش بين مختلف المكونات والأطياف، إلا بتعزيز قيم المواطنة.. والمواطنة حق مكتسب لكل مواطن، بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو قوميته..

ومن يعمل على صياغة رؤية أو نظرية بالمطابقة بين الانتماء المذهبي وحقوق المواطنة، هو يؤسس لمشاريع فتنة وصراعات مستديمة بين جميع الأطراف..

ومن يتعامل مع حقائق الانتماء المذهبي، بوصفها حقائق هشة وقابلة للتبديل هو في حقيقة الأمر، يدشن لنزعات طائفة مقيتة، تحت عنوان الثوابت والأصول..

فمن المنظور الاجتماعي والنفسي، كل حقائق الانتماء الديني والمذهبي، هي حقائق عنيدة وصلبة، ومن يعمل على استئصالها سواء بوسائل عنفية أم بوسائل ناعمة، هو يساهم من حيث لا يريد إلى المزيد من التشبث بكل حقائقه الظاهرية والعميقة، الجوهرية والشكلية..

لهذا فإنني أدعو العلماء والدعاة من جميع الأطراف وتحديدا الذين يتبنون نظرية ومقولة التعايش بين مختلف المكونات، إلى الابتعاد عن لعبة ثنائية الخطاب.. بحيث يقول لجماعته مقولات وآراء وتصورات، تستهدف تثبيت موقعيته في جماعته، حتى ولو كانت مناقضة لرؤيته في التعايش..

وخطاب آخر يستهدف فيه الجماعة المذهبية الأخرى، ويتلبس فيه لبوس الاعتدال والوسطية..

آن الأوان أن يتخلى الجميع وبالذات المشايخ والدعاة عن ثنائية الخطاب، لأنه لا يصنع إلا المزيد من الإرباك والاحتقان..

وفي هذا السياق، أدعو جميع المهتمين بشؤون الحوار والوحدة بين المسلمين في العالمين العربي والإسلامي، إلى الإنصات والتفاعل مع وقائع التجارب الحوارية التي تجري في المجتمع السعودي بين أتباع المذاهب الإسلامية وخصوصا بين السنة والشيعة..

فهي تجارب وحوارات ضمن ظروف مجتمعنا، هي حوارات جريئة، وتناقش موضوعات حساسة برؤية جريئة وشجاعة.. واللقاء الأخير الذي جرى في مجلس الشيخ الصفار بين الشيخ سعد البريك والشخصيات الشيعية التي حضرت اللقاء، هي من اللقاءات التي اقتربت من بعض الموضوعات الحساسة، وعبر فيها المتحدثون عن رأيهم بشجاعة كافية..

وإننا نعتقد أن استمرار هذه الحوارات الصريحة - المباشرة، ستفضي إلى نتائج إيجابية ومفيدة لمسار العلاقة بين المسلمين بمختلف مدارسهم ومذاهبهم..

الثلاثاء 10 رجب 1431 هـ - 22 يونيو 2010م - العدد 15338