«التعايش الطائفي» بين وثيقة الصفار وميثاق القرني

على غرار وثيقة سابقة جرى النقاش المستفيض بشأنها بين الرموز الشيعية والسنية في السعودية، اقترح الداعية المعروف الشيخ عائض القرني مؤخرا على مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في المملكة، أن يقوم المركز بمشاركة علماء ومفكرين ورموز من كل الطوائف الإسلامية على صياغة ما دعاه "ميثاق التعايش الطائفي"، وذلك "لتعيش طوائف الإسلام بسلام وتخرج من نفق الفرقة والسب والشتم، وتنهي ملف التحرش والاستعداء والكراهية" بحسب مقالة القرني التي تداولتها مواقع الكترونية مطلع الأسبوع الماضي.

ويذكرنا الميثاق الذي يقترحه هنا الشيخ القرني، بوثيقة شرف مقترحة كان تداول بشأنها علماء ورموز دينية وسياسية من الشيعة والسنة في السعودية، وحظيت تلك اللقاءات برعاية شبه رسمية بمشاركة علماء كبار وشخصيات رفيعة من الطرفين، أبرزهم من الجانب الشيعي الشيخ حسن الصفار والشيخ علي المحسن، فيما شارك عن الجانب السني الشيخ عبدالمحسن العبيكان المستشار في الديوان الملكي وعدد من الأمراء من الصف الثاني في العائلة المالكة، والملفت  أن شخصيات معروفة بتشددها الديني المنفلت من عقاله شاركت في بعض الجلسات، وذكر أنها حاولت دون جدوى إفشال اللقاء من الداخل، بعض هؤلاء، ممن كانوا ولا زالوا، نارا على علم، على شاشات النزاع والشحن الطائفي.

ولسوء الحظ جمدت اللقاءات والنقاشات بشأن ما عرف بميثاق الشرف نتيجة تصاعد التوتر الطائفي الإقليمي على خلفية الاحتراب الطائفي السني الشيعي الذي نشأ بعد سقوط النظام العراقي عام 2003 حيث ألقى العنف الطائفي الأعمى في العراق بتبعاته على كل محاولات التقارب المذهبي في عموم المنطقة.

وبالعودة لميثاق "التعايش الطائفي" الذي اقترحه الشيخ القرني وما سبقه من "وثيقة شرف" اقترحها الشيخ الصفار، واللتان تلتقيان على هدف واحد هو وقف الإساءات الطائفية المتقابلة واحترام الرموز الدينية لدي كل طرف عبر منع الشتم والتكفير، أرى، ودون التقليل من الجهود التي بذلت حتى الآن، بأن الطريق أمام عقد وثيقة من هذا القبيل لن يكون مفروشا بالورود، وحتى يصار إلى ملامسة دقيقة وأقرب للواقعية ينبغي على القائمين على هذه التفاهمات الطائفية أن يأخذوا في اعتبارهم منذ البداية عدة تحديات حقيقية ومهمة، لتذليل العقبات المتوقعة، حتى لا تتحول فيما بعد إلى حقل ألغام يكفي الواحد منها لتفجير أي وثيقة موقعة.

ومن هذه التحديات ما يلي:

الأول: مطاطية مصطلح الإساءة

كما مر آنفا، يتمحور مشروع التعايش المقترح سواء لدى الصفار أو القرني حول نقطة مركزية هي منع التكفير والإساءات المتبادلة للرموز الدينية بين أتباع الطائفتين السنية والشيعية، بيد أن أولى الملاحظات إن لم تكن الإشكالات المتوقع طرحها في وجه رعاة مشروع التعايش الطائفي ما يمكن وصفه بمطاطية مفهوم الإساءة، سعة وضيقا، وماهية الفرق بين الإساءة وبين والدراسة أو النقد التاريخي. ثمة حاجة ماسة هنا لحصر مصلح الإساءة ضمن أضيق الحدود حتى لا يتحول إلى أداة تكميم للأفواه أو حجر على الأقلام والعقول.

أعلم جيدا أن المسألة جد حساسة ودقيقة في آن، ولعل حجم الإساءات المتبادلة بين أتباع المذهبين والذي بلغ حد التكفير واطلاق دعوات القتل على الهوية، ربما يحفز على توسيع مفهوم الإساءة إلى أقصاه ضمن بنود أي قانون مقترح، وذلك لغرض لجم الأفواه المتطاولة كل ضد رموز الطرف الآخر، بيد أن توسيع هذا المفهوم بأوسع مما يجب، وتحت أي مبرر مهما بلغت وجاهته، أو تركه عائما وقابلا للتفسيرات الخاصة لدى كل فريق، ربما يعود ذلك بأضرار غير منظورة راهنا، بينها على سبيل المثال لا الحصر افتعال الاساءة وسوء التوظيف من هذا الطرف أو ذاك، والأكثر من ذلك حساسية إقفال باب البحوث الدينية والتاريخية التي قد تتطرق إلى شخصيات أو قضايا أو اتجاهات يسبغ عليها هذا الطرف أو ذاك هالة من القداسة ويرفض وضعها تحت مبضع التحليل العلمي أو الدراسة التاريخية تحت أي ظرف.

بالنسبة لكثيرين من أمثالي يكمن عنصر الإغراء هنا - عند توسيع مفهوم الاساءة- في إقفال باب الإساءة الطائفية ويضع حدا للتهريج واللغط المذهبي والتاريخي الذي يفرق الإخوان ويزيد الإحن والأضغان، لكن مع ذلك أخشى ان يستبطن هذا بذرة فشل الميثاق على المدى البعيد، تحت ضغط الحاجة إلى فتح باب النقاش العلمي بما يتطلب من رفع القداسة عن أي موضوع أو بحث يبتغي الوصول إلى حقيقة ربما غابت عن أعين الكثيرين، ولعل هذا هو عين ما أشار اليه الشيخ القرني في مقاله "وينص ميثاق التعايش الطائفي على مناقشة الخلاف بين الطوائف في دوائر مغلقة بين العلماء وحملة الفكر"، وقديما قيل "إذا أردت أن تطاع فأطلب ما يستطاع".

الثاني: طمأنة الجهات الممانعة في الطائفتين

وسط موجة الترحيب التي نجدها لدى الكثيرين إزاء اقتراح توقيع وثيقة تفاهم من شأنها وأد الفتن الطائفية بين الشيعة والسنة، لابد من الإشارة إلى أن هناك وسط هذا الزحام أصوات لا زالت متشككة بل رافضة لهذا النوع من التفاهمات، ولعل من بين الحجج التي تتناولها هذه الأطراف، ومنها السنية والشيعية، أن أي تفاهم من هذا النوع يستلزم بالضرورة التنازل عن ثوابت الدين أو المذهب بحسب التوصيف المتداول في بعض الأوساط، ولعل ملامسة أقرب لإشكالية هذه "الثوابت" المدعاة وبالتالي حقيقة هذا "التنازل" المزعوم سيدخلنا ذلك في متاهة لها أول وليس لها آخر من الحجج والحجج المقابلة في الداخل المذهبي لدى الطرفين، مما قد يبطئ أي تقدم حقيقي باتجاه تحقيق التفاهم الطائفي المرجو.

من هنا نجد إن إحدى متطلبات نجاح أي ميثاق تعايش مقترح هو "تطمين" الجهات الممانعة، بل المتعصبة أيضا، في الطرفين إلى أن أي تفاهم من هذا النوع لن يكون على حساب ما تعتبرها هي ثوابت دينية، وبصورة أوضح؛ لن يأتي الميثاق على نزع القناعات الخاصة أو انتزاع تراث كل طرف من رأسه!، وإنما غاية ما هناك هو أن يتجنب كل طرف توجيه الإساءة العلنية لرموز الطرف الآخر، على الأقل في المرحلة الأولى، ان عزّ إبداء الإطراف المتقابلة احترامها العلني لبعضها. إن إعطاء توضيحات شفافة للجمهور سيبعث برسائل "تطمينية" ستفيد كثيرا في تحييد الجهات الممانعة والمتعصبة لدى الطرفين، إن لم نقل أنها ستسحب البساط من تحت قدميها بانتزاع أي مبررات منطقية تعارض ميثاق التعايش الطائفي.

الثالث: انبثاق قانون رسمي يحمي التعايش

بالعودة لما كتبه الكاتب عبدالله بن بجاد العتيبي حول من وصفهم بـ"السفهاء الطائفيين" والذين طالب بوقفهم عند حدّهم ونزع أي صفة رسمية يحملونها ومعاقبة من يتجاوز الحدّ منهم عبر مؤسسات الدولة. الإتحاد الإماراتية 18 / 1. ومطالبة الدكتور حمزة المزيني بتشريعات تمنع من التطاول على الآخرين بنبزهم بألفاظ تحقِّرهم أو تحقر أديانهم أو مذاهبهم أو ألوانهم أو أعراقهم. الوطن السعودية21 / 1. إلى جانب ما اورده الدكتور توفيق السيف باشارته الى حاجة البلاد إلى قانون يجرم إثارة الكراهية ويمنع المساس بالوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي. صحيفة عكاظ 25 / 1.

مع جميع ما أشار اليه الأخوة والاخوات من الكتاب السعوديين المحترمين، هؤلاء الشرفاء الذين أظهروا شجاعة لافتة في نقد التطرف الديني وتحويل المنابر الاسلامية إلى وسيلة للسب والشتم والتكفير، خصوصا بعد الاساءات التي اطلقها الشيخ محمد العريفي بحق المسلمين الشيعة والمرجع الديني الامام السيستاني، يتضح من جميع ذلك مدى الحاجة الماسة لوجود قانون بغطاء تشريعي رسمي من مجلسي الشورى والوزراء، يحمي التعايش الطائفي ويعاقب على الممارسات والاقوال والكتابات والفتاوي التي تمس السلم الاجتماعي، وإلا فإن التعويل على تقوى الناس أو ضمائر الوعاظ لن يكفي وحده لردعهم عن الاساءة تحت الف مبرر ومبرر و"كان الانسان أكثر شيء جدلا".

الرابع: ضعف الضبط القانوني وانحيازية القضاة

لا يخفى أن من أبرز المعوقات التي تطرح أمام إجراء ميثاق التعايش الطائفي، هو مدى سلامة الضبط القانوني عند بروز مخالفات حقيقية للتفاهم المفترض خروجه للنور محميا بقانون. وبعبارة أدق؛ يتخوف المشككون أو الممانعون، سمهم ما شئت، من أن يكون هذا التفاهم سيفا مسلطا على جهة واحدة، بحيث تخضع ممارسات وخطابات وكتابات هذه الجهة للمراقبة الصارمة والمحاسبة الدقيقة، فيما يقابل الطرف الآخر باسترخاء وليونة قد تصل حد التواطؤ بحسب رأيهم. الأسوأ من ذلك، وفق بعض المشككين، أن مثل هذا التواطؤ قد يمتد للقضاة في حال وصول بعض القضايا التي اتهم أصحابها بارتكاب إساءات طائفية لأروقة المحاكم العامة، ويستدل هذا الفريق بجملة من القضايا التي وصل أصحابها للسجن وتلقوا وجبات من الجلد بالسياط جراء مزاعم من هذا القبيل، فيما لم يسجل في المقابل أي حالة طالت عناصر متشددة من الطرف الآخر رغم تكرر الإساءات الطائفية بصورة علنية وعلى مدار العام. من الواضح أن هذه الإشكالية تعد معضلة بحد ذاتها، ولذلك ينغي على القائمين على مشروع الميثاق المفترض أخذها بالاعتبار.

ضمن السياق نفسه لنا أن نتوقع بروز أصوات قليلة هنا وهناك من فئة "خالف تعرف" التي امتهنت المعارضة الكلامية من خلف الشاشات، لا لشئ سوى لأن من يتبنى هذه المشاريع والمبادرات قد يصنف بنظرهم باعتباره غريما سياسيا، هذا الصنف من الناس لا يستحق التوقف عنده طويلا، لأنهم باختصار أدمنوا التنظير على الورق، والتعاطي في ذات الوقت مع العاملين في الساحة وكأنهم موظفين ينتظرون التحريك بـ"الريموت كنترول" وإلا فمصيرهم الانتقاص الرخيص والنعوت المسيئة التي تنتظرهم من خلف الشاشات!.

آفاق

أظن ان مبادرة التعايش الطائفي سواء التي طرحها الشيخ الصفار أو التي اقترحها الشيخ القرني تشكلان منعطفين هامين في العلاقة بين أتباع الطائفتين الكريمتين هنا في السعودية، وفي حال كتب لمبادرة من هذا النوع الظهور للنور فستلقي بظلالها الايجابية على الأرجح على شكل العلاقة بين اتباع الطائفتين في مناطق أخرى في الخليج والعالم بالنظر للثقل السعودي على الصعيد العربي والاسلامي، من هنا تستحق هاتين المبادرتين كامل الدعم والمؤازرة من مختلف أطياف المجتمع.

وحتى تتحقق هذه المؤازرة أرى أخيرا أن من المهم اطلاع الناس بمنتهى الشفافية على تفاصيل هذه المبادرات والنقاشات وتسليط الضوء على جميع الحيثيات، ان مشاركة الجمهور وخلق رأي عام أو "عقل جمعي" باتجاه الدفع نحو تحقيق تعايش سلمي وحضاري بين اتباع المذهبين في المملكة، سيكون كفيلا بتحييد الجهات الممانعة أو المتعصبة التي سترى نفسها حينئذ هي الخاسرة الوحيدة ان لم تلتحق بهذه المسيرة والخطاب الجديد الأقرب لمضامين الدين الحنيف ومقاصد الشريعة الغراء، ليعيش المسلمون في هذه المنطقة كسائر أمم وأديان ومذاهب العالم التي لا تجد تعارضا في حقها الخالص في العقيدة والممارسة الدينية الحرة، مع حرية الآخرين في اعتناق العقيدة التي تبرء ذممهم أمام خالقهم مع حفظ كراماتهم عن  أي إساءة، سواء لاعتبارات الاحترام المتبادل، أو لوجود المحاسبة القانونية العادلة التي تعلو رؤوس الجميع.

11/2/2010م
كاتب وباحث سعودي