وقفة احتجاجية

للسيد ربّ يحميهِ. وحكومة تستطيع أن تزأر حين تشاء. ورجالٌ لديهم من الوقت والحماسة والحماية ما يكفيهم لأن يرفعوا الدعاوى ويُنزلوها في أية منصة تصل إليها خـُطواتهم ومحاموهم. وإعلام يردّ آناء الليل وأطراف النهار..!

أما نحنُ، شيعة َ الخليط «بالطاء» فلسنا أكثر من "قوم" لن يغيّر الله ما بهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم. وحتى ذلك التغيير الطوباويّ؛ فإن قدرنا أن نُمعن في ظاهرة الصوت التي تعجز عن تحديد موقفها "الطبيعي" والمعقول والناجع قانونياً وحقوقياً وسياسياً. ومآل ذلك هو أن نوقع أنفسنا، كالمعتاد، في شرك التفسيرات الآتية من الآخر. إنها نُـهزة يانعة جاهزة ومعلـّبة وقابلة للتسويق في إعلام الولاءات الخارجية..!

للسيد ربّ يحميه.

ولن يكون الشيخ محمد العريفي الآتي من عباءة الاعتدال «كما يقولون»؛ آخر "سوط" يـُغافل المفاهيم في فرصة أيديولوجية "ثمينة" ليخلط السياسيّ بالمذهبيّ؛ ويجلد "الحوثيين" في جسد "الشيعة" تعميماً، ووجه السيد "السيستاني" تخصيصاً، وبلهجة مختومة بالاستغفار "لي ولكم"..!

الذين سمعوا الجزء "المثير" في خطبة الشيخ العريفيّ؛ استفزّتهم كلمتان في حق السيد. أطاشت الكلمتان عقل كلّ حليمٍ منهم، ودلقت سائل الأدريالين في دم الغـَيرة. وأمام إهانة هائلة بحجم "زنديق" و"فاجر"؛ توحـّد الشيعة، كلّ الشيعة، في الإحساس المضادّ. ما اختلف، بين كلّ شيعيّ وآخر، هو شكل التعبير عن هذا الإحساس. ربما ما اختلف هو درجة ردة الفعل.. ربما ما اختلف هو مساحة الردّ المستغلّة للرد.

هنا، في الداخل السعودي، شرّفنا "قلة" من الخطباء بشجاعة منبرية قالوا فيها كلمتهم بوضوح. ويجدر بنا احترام صدارة الشيخ الصفـّار الذي "بادر" بقول كلمته قوية وواضحة، وأحرج آخرين ليحذوا حذوه..!

شرّفنا كتاب، ومتدينون، ومحتجّون. هؤلاء كتبوا ما كتبوا؛ دفاعاً عن "رمزية" المرجع السيستانيّ، عن كرامته، عن شيبته ووقاره، عن إنسانيته.

والسيد يستحق ذلك، ويستحق أكثر..!

ولكن الذين سمعوا الجزء الحساس من خطبة الشيخ العريفيّ نسوا أن للسيد ربـّاً يحميه. نسوا أن حجـَريْ العريفيّ أعجز من أن يمسا شيبته الكريمة. أثارتهم غـَيرتهم عن أن لنا ربّـاً يحمينا، أيضاً، ولكن ليس على طريقة حماية ذلك العجوز المقيم في بيتٍ متواضع إلى جانب ضريح علي..!

نسوا أن حجارة العريفيّ رجمت "الشيعة" عقيدة وسلوكاً بلا مثنوية ولا تمييز. انتهز الشيخ المعتدل «كما يقولون» فرصة سانحة؛ وأخرج المسكوت عنه من "حزازات النفوس" وأطلقها "كما هيا"؛ في خطبة جـُمعة لا تختلف عن البيان المتقيّح الذي أطلقه متشددون إبـّان المواجهة السعودية الحوثية. وفي نسخة مشوهة عن خطابية الاحتقان السعوديّ الإيراني في ثمانينيات القرن الماضي؛ جرف "سيلُ" العريفيّ الحوثيين والشيعة والسيستانيّ معاً.

ولأننا لا نقرأ جيداً ولا نُصغي جيداً؛ فإن النتيجة هي أننا لا نكتب جيداً، ولا نتكلم جيداً، ولا نُدير أزماتنا جيداً، ولا نُطالب بحقوقنا جيداً، ولا نداعي جيداً، ولا شيء "جيد" يُمكن أن "ننصبه" جيداً، على الرغم من أن المسؤولية الحقوقية والوطنية والسياسية، الآن بالذات، تخوّلنا أن نتعامل مع خطبة الشيخ العريفي على نحو "جيد جداً"، بل "ممتاز"، ومن دون أن نُعطي الآخر ذريعة توريطنا في شبهة الولاءات..!

إن للسيد ربـّاً يحميه..!

فلماذا تنتفخ أوداجنا حنـَقاً في اتجاه واحد هو الغيرة على السيد السيستاني..؟ لماذا نصرخُ ألماً في حين إن المنطق هو أن نطالب بردّ الاعتبار لنا نحن المواطنين المنصوبين هنا للاختصاص..؟ فالعريفيّ أساء إلينا عقيدة وسلوكاً، وأهاننا ونحن نعيش تحت ظلّ دولة شاركت في الاعتراف، دولياً، بأن مذهبنا واحدٌ من المذاهب "الثمانية". العريفيّ استخدم صوته وسوطه ضدّ مواطنين مثله.

لماذا خاننا التعبير عن حق من حقوقنا..؟ ولماذا أعمتنا الغيرة إلى الحدّ الذي بدونا فيه مجرد مدافعين عن رجل يعيش في دولة أخرى..؟

لماذا عجزنا عن بناء رؤية للأزمة التي تتكرر؟ ومن ثمّ موقف يمثلنا..؟ ومن ثم إجراء يطالب بالحماية الثقافية والاجتماعية والسياسية أمام دوائر صُنع القرار..؟ أمام وليّ الأمر..؟

على مدى ثلاثين عاماً من الأزمات المتلاحقة؛ لم ننجح، نجاحاً جدياً واحداً، في ممارسة الدور "القـَبليّ" الذي يؤديه إخواننا المواطنون الآخرون. لم نتعلّم، رغم الدروس المستفيضة، أن بلادنا لا تمارس ثقافة أكثر تأثيراً من ثقافة القبيلة. وأن الممارسة الوطنية تتمّ في سياق القبيلة، وولاء القبيلة، وشرف القبيلة، ولن أقول: بقوة القبيلة..! والذين لا قبائل لهم "اخترعوا" قبائلهم الافتراضية.

تخسر كثير من قضايانا العادلة؛ لأننا لم نبنِ صورة القبيلة في المشهد الوطني. لم نـُنتج رجلاً واحداً نعترف له بشرف تمثيلنا. أو نقترب من الإجماع على تقدير مواقفه وتضحياته، أو حتى ندعو له مجمعين بالتوفيق..!

 إن الأزمة المركـّبة، في وعينا الشيعيّ، تنبني من إشكاليتين:

أولاهما: التعاطف السلبيّ مع قضيتنا المذهبية، واندفاع أعصابنا إلى توترات عمياء؛ إلى حدّ أن أوضح الواضحات في مظلوميتنا يمكن أن تتحوّل إلى مشهد ضبابيّ بـ "فضل" التشويش الذي نثيره حول أية قضية عادلة. إن المظلوم يُمكن أن يستحيل ظالماً حين لا يُدير شكواه كما ينبغي.

وثانيهما: هو حالة التشظـّي الجاثمة على نمط تفكيرنا في إدارة علاقاتنا الشيعية البينية. وأبسط تمظهرات هذه الحالة هو تحوّل المجتمع إلى مجموعات متنافرة ثقافياً وتفكيرياً «ولا أقول فكرياً». ولن أخجل من أن أشير إلى وجود مشايخ لا يُجيزون الائتمام بمشايخ آخرين وهم مثلهم شيعة، وأن التفتـّت بالغ مدىً أقصى من هذه الجزئية.

وحين نكون في هذا الدرَك من الواقع المشين؛ فأيّ احترام ٍ نطلبه لنا..؟ من يحترمنا فعلاً؟ إذا كان الشيعيّ لا يحترم الشيعيّ الآخر لوجود "فواصل" صغيرة بينه وبينه؛ فهل يـُنتظر أن يحصل الشيعيان على احترام من آخر غير شيعي..؟

نُطالب الآخرين بالاعتراف بنا، ونلحّ على إيقاف اعتداءاتهم علينا، ونثور حين يفيض قيح أحد هنا أو هناك.. في حين إننا نمارس الاعتداءات والإقصاءات والتقيحات فيما بيننا..

للسيد ربّ يحميه..

7/1/2010م
كاتب وصحفي سعودي