الخطاب الإسلامي مشكلة أم حل

تنتظر المجتمعات الإسلامية من الخطاب الديني، أن يقدم حلولاً ومعالجات للمشاكل والتحديات التي تواجهها. وهي مشاكل كبيرة وتحديات خطيرة، تبدأ من صعوبات التربية في عصر العولمة، حيث تدنّت إمكانات تأثير الأسرة على الأبناء، لصالح تأثيرات وسائل الاتصال المتطورة، والإعلام الفضائي المفتوح.

مروراً بمشاكل التفكك الأسري، والأزمات الاقتصادية، وتخلف التنمية، وانتهاءً بهيمنة الاستبداد السياسي، وغياب المشاركة الشعبية، وما يؤدي إليه من فقدان الاستقرار والأمن، ونشوب الصراعات والنزاعات.

ثم ما تواجهه المجتمعات الإسلامية من عدوان صهيوني جاثم على قلب الأمة، منذ أكثر من نصف قرن من الزمن، وكذلك محاولات الهيمنة والنفوذ من قبل مختلف قوى الاستكبار العالمي.

هذه التحديات والمشاكل تستوجب نهوض الأمة، وتجنيد قواها وطاقاتها، وتفعيل إمكاناتها وقدراتها، لتجاوز واقع التخلف، والالتحاق بركب الأمم المتقدمة، التي تنعم بالديمقراطية والاستقرار السياسي، وتتنافس في ميادين العلم والمعرفة، والتطور والتقدم الاقتصادي.

وإنهاض الأمة وتعبئتها لمواجهة المشاكل والتحديات، هي المهمة الأساس للخطاب الديني، لكن المؤسف أن بعض الخطاب الديني ينتج للأمة مشاكل إضافية، ويشغلها عن مواجهة تحديات واقعها المعاصر، بنبش وإثارة مشاكل تاريخية قديمة، أكل عليها الدهر وشرب.

لقد حصلت في تاريخنا الماضي أحداث وصراعات سياسية واجتماعية كثيرة، ودارت خلافات ونزاعات كلامية وفقهية صاخبة، لم تكن بعيدة عن التأثير السياسي، ويحق لنا أن ندرس التاريخ، وأن نقرأ أحداثه ورجالاته، ونتعرف على جذور التوجهات والتيارات السياسية والفكرية التي أسست للتنوع المذهبي القائم في الأمة.

لكن ذلك لا يعني البقاء في كهوف التاريخ، والتخندق في جبهات صراعاته، وإعادة تمثيل معاركه وحروبه، على حساب مصالح الحاضر، وهموم الواقع.

إن أتباع كل مذهب ومدرسة يجدون أنفسهم معنيين بتربية أبنائهم وفق انتمائهم الديني المذهبي، ولهم الحق في التعبير عن آرائهم وتوجهاتهم، وإنتاج ثقافتهم المذهبية الخاصة.

كما أن الحوار والنقاش بين وجهات النظر المختلفة أمر مشروع ومطلوب، لإثراء المعرفة، وإنضاج الرأي، وتمحيص الحقائق.

لكن تربية الأبناء على المذهب لا تعني زرع الأحقاد والضغائن في نفوسهم على أبناء المذاهب الأخرى، ولا تحريضهم على الكراهية للآخرين.

كما أن جزءاً كبيراً من خطابات المساجد والحسينيات تأخذ منحى تعبئة جمهور المذهب ضد جمهور المذهب الآخر.

وتخصصت بعض القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية في إثارة الحوار المذهبي، باتجاه الشحن الطائفي، وإذكاء الصراع والنزاع، لصب الزيت على نيران الفتنة المتقدة في أكثر من موقع.

حقاً لقد أصبح الخطاب الديني في هذا الاتجاه مصدر مشاكل إضافية للأمة، بدل أن يقدم الحلول لمشاكلها القائمة.

إن حشوداً ضخمة من أبناء الأمة تجتمع في المناسبات الدينية لتصغي لخطابات الخطباء والدعاة، والتي تبث أيضاً عبر القنوات الفضائية، مما يوفر أفضل الفرص لتوجيه الناس نحو تعزيز القيم الأخلاقية في حياتهم، ولإرشادهم للتغلب على المشاكل التي يواجهونها في مجالات التربية والعلاقات الأسرية، وصعوبات المعيشة، ولتحفيزهم نحو المعرفة والإنتاج وبناء المستقبل الأفضل.

لكن المؤسف أن معظم الخطابات التي تُلقى على تلك الحشود المهيأة نفسياً للتفاعل والتأثر، تتجه نحو قضايا الخلاف المذهبي والتعبئة الطائفية، مما يخلق لدى الجمهور اهتماماً زائفاً، بأولوية المعارك المذهبية على سائر التحديات، ويصنع في نفوسهم إشباعاً كاذباً لعواطفهم الدينية، بأن الولاء للدين والإخلاص للعقيدة يتجسد في البراء من الآخر المذهبي، وبغضه وكراهته، ولعن رموزه والشخصيات التي يقدسها.

إن ظواهر سلوكية خطيرة تنتشر في هذه المجتمعات، وتهدد أمنها الأخلاقي والاجتماعي، كانتشار المخدرات، وعصابات الإجرام، وممارسة العنف، والتفكك الأسري، وتدني مستوى التعليم، وارتفاع نسبة البطالة، والمشاكل الأخلاقية.... بينما يعيش ذلك الخطاب الديني في واد آخر، وكأنه غير معني بما ينخر في جذور المجتمع من أمراض وأوبئة فتّاكة.

والأخطر من ذلك ما تؤول إليه هذه التعبئة الطائفية من نشوب الفتن، وفقدان الاستقرار والأمن، كما حصل في أكثر من بلد كباكستان والعراق.

فهل يدرك هؤلاء المنتجون لهذا الخطاب مآلات وآثار خطابهم؟

إن بعضهم ينطلق من سوء فهم وقصر نظر، فهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

وبعض الخطباء لا بضاعة لهم غير هذه الحكايات التي حفظوها وألفوا طرحها، ولا يجدون ولا يجيدون غيرها.

والبعض الآخر تدفعه الأغراض والمصالح، فيدغدغ مشاعر الجمهور بهذه الطروحات، لكسب الشعبية والنفوذ، وتحقيق المآرب الشخصية.

وهناك من ينطلق في خطابه الطائفي من أجندة سياسية، لتحصيل موقع سياسي، أو خدمة حزب أو فئة، أو لكونه مدفوعاً من جهة سياسية في الداخل أو من الخارج، لها مصلحة في إثارة الخلاف وإشعال الفتنة.

ومع كل ما نشعر به من القلق لارتفاع صوت الخطاب الطائفي، إلا أننا يجب أن نراهن على إثارة وعي أبناء الأمة، فقد عاش الأوربيون ما تعيشه أمتنا الآن، من خلافات ونزاعات، طائفية وعرقية وسياسية، لكن حركة الوعي والتنوير التي قادها المفكرون والمثقفون والمصلحون الدينيون في مجتمعاتهم، قد أثمرت بعد كفاح مرير، وتضحيات كبيرة، فتجاوزت شعوبهم حالة الاقتتال والاحتراب، وأسسوا دولتهم الحديثة على أساس مفهوم المواطنة والمشاركة، وهم الآن يصنعون اتحادهم الأوربي الكبير الذي يضم سبعاً وعشرين دولة، تتنوع انتماءات شعوبها القومية والدينية ، حيث يبلغ عدد اللغات الرسمية في الاتحاد الأوربي ثلاثاً وعشرين لغة، كما تتعدد مذاهبهم المسيحية من كاثوليك وأرثوذكس وبروتستانت، إضافة إلى الجاليات المختلفة في انتماءاتها العرقية والقومية والدينية. إن على القيادات المخلصة في الأمة أن تخوض معركة الوعي، وتقاوم التوجهات الطائفية، متسلحة بالثقة والأمل، وأن تطور خطابها التوعوي، وتكثف الجهود في نشره وبثه، لتتجه مسيرة الأمة نحو التنمية والبناء، وتتجاوز واقع الاستبداد والجمود.

الأربعاء, 26 أغسطس 2009م