الخطاب الديني والتحديات الداخلية

الشيخ حسن الصفار * صحيفة المدينة - ملحق الرسالة - صحيفة المدينة

كان التحدِّي الأكبر أمام الخطاب الإسلامي في حقب ماضية هو مواجهة التيارات المناوئة للإسلام.

ففي بدايات القرن التاسع الميلادي أدرك دعاة الإسلام خطر حملات التبشير التنصيري التي واكبت الاحتلال الأوربي للبلاد الإسلامية، وكان إلى جانبها نشاط استشراقي مكثف يهدف إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم، وسيرة النبي ، والمفاهيم والتشريعات الإسلامية، طفحت به كتب كثير من المستشرقين ودراساتهم.

فانبرى المخلصون الواعون من علماء الأمة بألسنتهم وأقلامهم وأرواحهم لردّ هذه الهجمات العاتية، وبذلوا قصارى جهدهم للوقوف أمام تلك الموجات العارمة، رغم محدودية إمكاناتهم قياساً بقدرات الغزاة الذين يستندون إلى ميزانيات ضخمة، وهيمنة عسكرية سياسية، ومراكز أبحاث وتخطيط.

وفي العقود الأولى من القرن العشرين للميلاد، كانت هناك معركة أخرى تنتظر دعاة الإسلام، هي أشد شراسة من حملات التنصير وشبهات الاستشراق، وهي مواجهة المدّ الشيوعي والتيارات العلمانية المناوئة للدين. ذلك أن معظم التيارات العلمانية التي ظهرت في البلاد الإسلامية، أخذت منحى المحاربة والمناوأة للدين، بخلاف معظم تيارات العلمانية في الغرب التي التزمت الحياد تجاه الدين.

فقد استثمرت هذه التيارات المناوئة أرضية السخط والرفض للواقع السيئ المتخلف لدى جماهير الأمة، وتبنت شعارات الثورة والنهوض، داعية إلى التنكر للدين والتخلص منه، لأنه يتحمل مسؤولية تخلف الأمة وانحطاطها. وتمكنت هذه التيارات من استقطاب شرائح من أبناء الأمة، ووصلت إلى مواقع السلطة والحكم في عدد من البلدان العربية والإسلامية، عبر الانقلابات العسكرية، والتنظيمات الحزبية.

فكانت المعركة عنيفة قاسية في بعديها الفكري والسياسي، حيث عانى دعاة الإسلام من قمع الأنظمة التي انبثقت من هذه التيارات المناوئة.

وما كاد ينتهي القرن العشرون حتى انحسر مدّ تلك التيارات، وظهرت طلائع الصحوة الإسلامية، وارتفعت رايات الإسلام في كل مكان، إذ استعادت جماهير الأمة ثقتها بدينها، بعد أن وجدت تلك التيارات ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ[1] ، وهكذا بدأ عصر الإسلام من جديد.

ومع أن هناك تحديات خارجية لا تزال قائمة أمام الخطاب الإسلامي، وفي طليعتها الحرب الإعلامية الثقافية الطاحنة على الإسلام، بوصفه دين إرهاب وعنف، التي تجاوزت كل أعراف وتقاليد العلاقات بين الأديان والحضارات والأمم، كما تمثل ذلك في الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد ، التي نشرتها صحيفة دنماركية ثم أعادت نشرها هذا العام عدد من الصحف في الدول الأوربية، في تحدٍّ سافر لمشاعر المسلمين، وإساءة صارخة لدينهم وهويتهم.

لكن مثل هذه التحديات الخارجية ليست على درجة كبيرة من الخطورة تستلزم وضعها على رأس التحديات وأولويات المهام أمام الخطاب الإسلامي.

إنني اعتقد أن الخطاب الإسلامي يواجه الآن تحديات داخلية هي الأهم والأخطر على مستقبل الإسلام والأمة. فلا بد من الاستجابة لها والارتقاء إلى مستوى مواجهتها.

ولعل من أبرز وجوه هذه التحديات ما يلي:

أولاًً: إنتاج ثقافة التنمية والبناء:

 فقد برع الخطاب الإسلامي في تعبئة جماهير الأمة ضد الأعداء، وضد واقع الفساد والانحراف، وتلك مهمة هدم وتقويض.

ولكن ما هو البديل الذي يجب أن تتجه الأمة لبنائه على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي وبناء المعرفة وتنمية الأخلاق؟ وكيف يقود الإسلام معركة التنمية والبناء؟

هذا ما يحتاج إلى إجابة معمقة تتضمن برامج عمل، وآليات تنفيذ، وثقافة حركة وإدارة.

ثانياًً: العلاقة الإيجابية مع الآخر:

المصالح في عالم اليوم متشابكة، والصراع والنزاع ليس هدفاً ولا إستراتيجية دائمة، وإنما هو ضرورة بمقدار مواجهة العدوان. كما أن الإسلام رسالة خير ورحمة للبشرية جمعاء.

من هذا المنطلق لا بد من إنتاج خطاب يساعد على الانفتاح والحوار مع الآخر، ولا بد من نشر ثقافة دافعة لصنع العلاقات الإيجابية مع الغير، ولتجاوز آثار مراحل الصراع والنزاع.

صحيح أن هناك اعتداءات لا تزال قائمة ضد الإسلام والأمة، لكن المطلوب حصر المواجهة والصراع مع الجهات المباشرة للعدوان دون استعداء للعالم كله، وتعميم الصراع على مستوى الأديان والحضارات.

والأشد إلحاحاً حاجة الأمة إلى ثقافة العلاقة الإيجابية مع الآخر الداخلي، حيث لا نزال نعيش آثار الصراعات القديمة التي حصلت بين الأسلاف في القرون الأولى لتاريخ الأمة، والتي تتفجر اليوم على شكل فتن ونزاعات طائفية. كما لا يزال التنوع القومي والقبلي عائقاً أمام الوحدة الوطنية، والاستقرار السياسي، في عدد من البلدان العربية والإسلامية.

ثالثاًً: ترشيد التوجهات والممارسات الدينية:

فالإقبال على الدين، وارتفاع المعنويات في أوساط المتدينين، قد يدفع باتجاه الغلو والمبالغة في التوجهات والممارسات الدينية، خاصة وأن في تراث الأمة بمختلف مذاهبها ما يغذي مثل هذه الاتجاهات.

كما أن بعض القوى الدينية التقليدية التي لا تمتلك مشاريع للتنمية والنهوض، قد تسعى لدغدغة مشاعر العامة، وعواطفهم الدينية، لتعزيز نفوذها ومواقعها، في مقابل صعود قوى الإصلاح والتطوير.

وليس مستبعداً أن تدخل على الخط بعض الجهات الخارجية، أو بعض القوى المصلحية في الداخل لتشجيع اتجاهات المبالغة والغلو في الأوساط الدينية.

إن خطر توجهات الغلو كبير على مستقبل الإسلام والأمة، ولذلك حذّر الله تعالى الأمم السابقة من الغلو في الدين، يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ[2] .

وتتمثل أهم مظاهر خطر الغلو في النقاط التالية:

أ/ تحريف المفاهيم، وإفراغ الأحكام الشرعية من مضامينها، والابتعاد عن مقاصد الدين وأهدافه، وإشغال الأمة بحالة طقوسية فارغة، تستنزف الجهود، وتصنع حالة من الإشباع الكاذب، والشعور الزائف بأداء الواجب نحو الدين.

ب/ الاستغراق في الجوانب الغيبية على حساب العقل ومراعاة السنن الإلهية للطبيعة والحياة، مما عزَّز حالة التواكل والكسل، وعدم البحث الموضوعي والمعالجة الواقعية لمشكلات الحياة، وفتح المجال أمام أسواق الشعوذة والدجل، التي تدّعي القدرة على تقديم مختلف العلاجات للأمراض الجسمية، والمشكلات النفسية، والقضايا الاجتماعية.

ج/ تشجيع التطرف والتشدد تجاه الآخر الخارجي والداخلي، انطلاقاً من تفاصيل الخلافات العقدية والتاريخية، وإغفال مساحات الالتقاء والاشتراك، لقد أصبح عندنا خطباء متمرسون في إذكاء الخلافات الطائفية، ومحترفون لإثارة الكراهية والبغضاء بين أبناء الأمة، وقد منحتهم القنوات الفضائية أفضل الفرص لرفع أصواتهم وبث سمومهم في مختلف الأرجاء.

د/ ممارسة الإرهاب الفكري تجاه أيِّ رأي مخالف واتهامه بالمروق والابتداع، مما يوقف حركة الاجتهاد، ومسيرة التطوير والتجديد.

إن هذه التحديات الداخلية توجب على العلماء والدعاة المدركين لها أن يوجهوا خطابهم واهتمامهم نحو مواجهتها، وتبصير جماهير الأمة بما يخدم مصلحتها، ويصون رسالتها الإسلامية العظيمة عن عبث الغالين والمتزمتين.

ولا شك أنها مهمة شاقة تكتنفها صعوبات بالغة، لأن دعاة التشدد والغلو يستثيرون عواطف ومشاعر العامة الدينية، ويستندون إلى آراء وتبريرات لها جذورها في التراث المذهبي لمختلف الطوائف والمذاهب، ويظهرون أنفسهم حماة للعقيدة وحراساً لشعائرها، ولا يتورعون عن التشكيك في دين من يختلف معهم ولو في أدنى التفاصيل.

الدعوة على بصيرة:

لقد تحدث النبي بأمر الله تعالى له، عن أهم سمة لمنهجه في الدعوة إلى الله، وهي امتلاك البصيرة، يقول تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ[3] .

والبصيرة من البصر والإبصار، فكما يحتاج الإنسان إلى حاسة البصر ليرى الأشياء المادية في هذه الحياة، وليتمكن من السير في طرقها متلافياً الضياع والوقوع في الحفر والمزالق، كذلك يحتاج إلى المعرفة والوعي لتقويم الآراء والأفكار، والتمييز بين مسالك الخير ومهاوي الشر والفساد. وتلك هي البصيرة.

وكون الداعي على بصيرة في دعوته يعني أمرين:

الأول: اطمئنانه للفكرة ووضوحها عنده، حيث لا يصلح للداعي أن يطرح فكرة لم يجتهد في بحثها، ولم يتأكد من صحتها، ولا ينبغي له أن يجترّ في خطاباته طرح ما هو سائد ومتناقل دون تحقيق وتمحيص.

ومن المؤسف جدّاً أن تجد بعض العلماء والدعاة ينقلون للناس روايات تاريخية، وآراء عقدية، ومسائل ذات تأثير في أذهان الناس وسلوكهم، قبل أن يكلفوا أنفسهم عناء التأكد من صحة تلك النقولات، اتكالاً على ما سمعوه من خطباء آخرين، أو أخذاً من مصادر غير معتمدة، أو استجابة لرغبة المستمعين.

إن وسائل البحث وأدوات المعرفة أصبحت متوفرة ومبذولة، فلا عذر للمقصرين والمتقاعسين.

الآخر: معرفة الواقع الخارجي الذي تلامسه الفكرة المطروحة، فليست كل فكرة صحيحة صالحة للعرض في كل زمان ومكان، ولعل المقصود بالحكمة في الدعوة في نص الآية الكريمة:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [4]  هو اختيار القول المناسب للموقع المناسب.

من هنا يحتاج الدعاة في كل مجتمع إلى تقويم ظروف مجتمعهم، ودراسة أوضاع البيئة التي يتحركون فيها، لينطلق خطابهم الديني من خطة مدروسة، وليركزوا على الأولويات.

وقد تحدث العلامة الشيخ عبدالله العَلَمي الغزّي الدمشقي أستاذ دروس التفسير في الجامع الأموي بدمشق المتوفي سنة 1355هـ 1936م حول هذه الآية الكريمة: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [5]  في كتابه القيم (مؤتمر تفسير سورة يوسف) فقال تحت عنوان ( أكثر دعاة أهل اليوم هم على غير بصيرة):

«النبي عليه الصلاة والسلام، كان يدعو إلى الله على بصيرة، وهكذا خلفاؤه وعلماء السلف والأئمة المجتهدون وسائر العلماء الصالحين، ولكن من المؤسف، أن أكثر دعاة أهل اليوم، هم على غير بصيرة، لأنهم مزجوا الدخائل بعقائد الدين، وأدخلوا البدع والأخلاق الرديئة في العوائد الإسلامية، وعلمّوا الجهال تعاليم خادعة، لبِّست الغيّ بالرشاد، كما علموهم التأويلات الباطلة، التي شبهت الحق بالباطل، حتى صار الجبر «توحيداً«، وإنكار الأسباب «إيماناً« وترك الأعمال المفيدة «توكلاً» ومعرفة الحقائق «كفراً وإلحاداً» وإيذاء المخالف في المذهب «ديناً» والجهل بالفنون والتسليم بالخرافات «صلاحاً». واختبال العقل وسفاهة الرأي «ولاية وعرفاناً» والذلة والمهانة «تواضعاً» والخنوع وقبول الضيم «رضى وتسليماً» والتقليد الأعمى لكل متقدم «علماً وإيقاناً».[6] »

هذا ما كتبه الشيخ الجليل قبل ثمانية عقود من الزمن عن دعاة عصره، فهل دعاة اليوم أفضل حالاً من أولئك؟ هذا ما نأمله ونرجوه.

نسأل الله تعالى أن يوفق دعاة الإسلام لتحمل مسؤولياتهم الكبيرة في هذه المرحلة الخطيرة، وأن يكلل جهودهم بالنجاح لتجاوز هذه التحديات القائمة.

والحمد لله رب العالمين

*ملحق الرسالة بجريدة المدينة / عدد يوم الجمعة 19/4/1429هـ الموافق 25/4/2008م

[1]  سورة النور: الآية 39.
[2]  سورة النساء:الآية 171.
[3]  سورة يوسف: الآية 108.
[4]  سورة النحل: الآية 125.
[5]  سورة يوسف: الآية 108.
[6]  الغزيّ: عبدالله العلمي/ مؤتمر تفسير سورة يوسف /ج2 ص1429، الطبعة الأولى- مطابع دار الفكر 1381هـ-1961م –دمشق.