هكذا عرفته

الحاج الوجيه عبد القادر الشيخ علي أبو المكارم[1]  يروي لـ (المرشد) ذكرياته مع الشيخ الصفار، في سرد لطيف، حيث كان أول من دعا الشيخ الصفار لقراءة مجلس حسيني في العوامية، حيث كان سماحته في مقتبل عمره، وبداية مشواره الخطابي. جاء ذلك في العدد الخاص بسماحة الشيخ الصفار[2] .

بداية:

والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله الطاهرين، قال الله العظيم في كتابه الكريم: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[3] .

حقاً يرفع الله الذين آمنوا والذين أخلصوا وعملوا وجاهدوا وضحوا بأنفسهم وأوقاتهم وبكل لحظة من لحظاتهم في سبيل الله وخدمة محمد، وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين).

محاولة قصيرة أكتبها عن هذا الشيخ الجليل ألا وهو سماحة العلامة الشيخ حسن بن الحاج ملا موسى بن الشيخ رضي الصفار، حفظه الله تعالى.

أكتبها تلبية لرغبة وطلب الأخ الفاضل الشيخ حسين الفاضلي، رئيس ومحرر(مجلة المرشد).

معرفة:

عرفت الشيخ الصفار من زمن قديم، كان صغيراً حينها، لم يختط عارضاه، بعد، كان ابن تسع أو عشر سنوات.

كنت أذهب إلى القطيف لحضور مجالس الذكر، مجالس الاحتفالات، والمآتم الحسينية، وكان من بين تلك المجالس، مجلس الحاج مهدي الأسود، الذي كان يقيم مناسبات أهل البيت E، فصادف في إحدى المرات أن رأيت غلاماً صغيراً جميل المحيا يلقي بعض الكلمات أو القصائد التي تنم عن عبقرية وفكر وقاد، وذهنية حاضرة فذة.

رأيته يقف خلف المنصة أمام الجمهور الكبير، بذلك اللباس الديني الذي زاده حسناً كاسمه حسن، وعرفت أنه ابن الحاج الملا موسى الصفار.

لقاء:

صادف ذات يوم أن رأيته في الطريق، سلمت عليه وحييته، ثم دعوته لتشريفنا في منطقتنا العوامية، ليلقي محاضرة حسينية دينية، فأعطى القبول ولكن بشرط!.

قلت: تفضل، شروطك مجابة إن شاء الله.

قال: توفير جهاز ميكرفون.

قلت: لا بأس سأعمل جاهداً لتوفير ذلك.

جئت العوامية وبحثت عن طلبه، وكان ذلك الوقت قل ما تجد هذا الجهاز، وأتذكر أنه لم يكن في العوامية آنذاك إلا جهاز واحد، كان وقفاً لموكب العزاء الحسيني، والمسؤول عنه: الحاج عبد الله بن أحمد بن علي الفرج، والحاج السيد سعيد العوامي.

فطلبت منهما الميكرفون فلبيا طلبنا خدمة لأبي عبد الله الحسين .

إعداد:

أخذت الجهاز ووضعته في حسينية الشيخ علي أبو عبد الكريم الخنيزي، قبل أن تهدم ويعاد بنايتها. بعد أن قمت بدعوة بعض الشخصيات، وبقية الناس تأتي مجرد أن تسمع صوت الخطيب، وذلك لقلة الخطباء في ذلك الوقت وقلة المجالس العامة، إذ أكثرها كما هو المتعارف على تسميتها بالعوائد. وجهاز الميكرفون سيما في ذلك الوقت خير مبلغ وخير داع.

طلبت من ابن العم الملا أحمد بن حسن الشيخ، أن يفتتح المجلس بقراءة القرآن، ريثما يأتي الحضور ثم الخطيب.

استقبال:

استأجرت سائقاً وهو المرحوم الحاج حسن بن علي آل ربح من أهالي العوامية، وذلك لإحضار خطيبنا.

حضر الخطيب، وأجلسته في منزل أخي المرحوم الحاج عبد الكريم، إلى أن يجتمع الناس في الحسينية ويحين موعد القراءة المحدد، ثم انطلقنا به إلى الحسينية، وصعد المنبر، وتحدث عن شهر رمضان وكيفية استقباله، وكيف يمكن أن يستفيد المؤمن من هذا الشهر الفضيل، وما هو فضل هذا الشهر وخصائصه. حيث كان وقت القراءة في نهاية شهر شعبان.

استمرت قراءته قرابة خمس وأربعين دقيقة، استطاع على صغر سنه أن يعطي الموضوع حقه، وأن يجذب أسماع الجالسين.

لا أزال أتذكر أن تلك الليلة كانت حافلة بالحضور، حتى أن أكثر خطباء العوامية (الملالي) لم يقرؤوا المجالس الملتزمين بها (العادات)، بل حضروا لرؤية هذا الخطيب الصغير، وقد أعجبوا به كثيراً.

شامي:

ومن شدة إعجاب الناس به أنهم أطلقوا عليه: الشامي الصغير، نسبة إلى الخطيب العراقي السيد حسين الشامي، الذي جاء تحت دعوة المرحوم السيد محمد السيد باقر العوامي، والمرحوم الحاج محمد تقي آل سيف، وقد كان الناس معجبين بهذا السيد الشامي لما رأوه منه من وفرة معلومات وحسن أداء في الخطابة، فحين رأوا هذا الخطيب الصغير وحسن أدائه وغزارة معلوماته ذكرهم بشاميهم، فأطلقوا عليه الشامي الصغير.

مسجلة:

مع الأسف أن الشريط الذي سجل المحاضرة لم يعد بأيدينا، حيث قام الحاج سعيد بن الحاج حسن الدبيسي بتسجيل المحاضرة على جهاز تسجيل من نوع الأسطوانة ذات البكرتين، إلا أن هذا الشريط قد تعرض للتلف، ولم تكن هناك نسخة ثانية.

مغادرة:

بعد أن انتهى الخطيب من المجلس، أخذناه فوراً إلى السيارة، حيث طلبنا من السائق أن يقف بمحاذاة باب الحسينية، وحاولنا قدر المستطاع أن نبعده عن الجمهور، إذ أن الناس كانوا متعجبين ومعجبين، فكانوا يريدون أن يوقفوه بأي شكل كان، حتى ينظروا إليه، ولم نستطع إخراجه إلا بعد عناء كبير.

ثم في اليوم التالي، ذهبت إلى القطيف قاصداً الشويكة، حيث منزل الشيخ هناك. قابلته واعتذرت منه على ما كان، فقال لي بنص العبارة: إني وجدت أكثر من هذا، حيث كانت بعض المناطق التي قرأت فيها يعطلون عجلات السيارة، وقد صبرت على ذلك وتحملتها في سبيل محبتي للإمام الحسين .

حقاً لقد كان مخلصاً، مجاهداً، مثابراً، وصولاً، كرس نفسه لخدمة الدين وأهل البيت ، ورجال الدين والمجتمع.

تواصل:

لقد رأيته وعرفته من ذلك الحين، وكان وصولاً لي، بل الأكثر من ذلك أنه كان يزور الناس في بيوتهم، وهم لا يزورونه. كان يزورني في البيت وأستضيف معه بعض المؤمنين، فكنت أراه يوجههم بكل ما أوتي من علم، ولا يبخل على أحد بتوجيه و إرشاد، أو بابتسامة، كان محباً للجميع.

إلى أن ذهب إلى العراق لطلب العلم، وعاد ثانية، وكان في أثناء دراسته أيضاً يمارس التبليغ في بعض المناطق سيّما في دولة عمان حيث كان ينزل في مسقط للتوجيه والإرشاد، وذلك حسب توجيهات مرجعنا الراحل الإمام الشيرازي (قدس سره)، ومع ذلك ما ترك تواصله معي، حيث كان يزورني في كل مرة يأتي فيها للبلد، وكنت أبادله الزيارة.

حين تزوج ورزق بأول مولود، وقد كانت بنتاً، سرني ذلك الخبر، فذهبت واشتريت للمولود بعض أشياء، وهي ما اعتدنا على تسميتها (نحلة)، والنحلة إما أن تكون عينية أو نقدية تعطى للأم أو الأب في الأسابيع الأولى من الولادة.

ذهبت له وهنأته بهذه المولودة ففرح بمقدمي، وقال لي: أنت أول واحد يهنئني بهذا المولود.

مهاجراً:

شيخنا ممن نذر نفسه لخدمة الدين والمجتمع، لذلك هاجر عن بلده لطلب العلم، وللقيام بدور التبليغ والتوجيه، أينما حل، وكان يمارس ذلك عن طريق المنبر والخطابة، فهو حين يرتقي الأعواد ترى جمهوراً كبيراً من الناس يجدون في حضور مجلسه لما يتحلى به من شفافية في الطرح وإخلاص في التوجيه، وتنوع وكثرة في المواضيع التي يجدون من خلالها الحل لمشاكلهم وهمومهم، لم يكن من الخطباء التقليديين الذين اعتادوا على بعض مواضيع يلقونها ويخصصون لكل مناسبة موضوعاً يكررونه ما تجددت الذكرى.

كان يقرأ في حسينية الزهراء ، في الشام عند حرم السيدة زينب بنت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكانت الحسينية تعج بالحضور والمستمعين إليه، حتى أن بعض المؤمنين ونظراً لظروف سياسية في ذلك الحين، كانوا يستمعون إليه في المقبرة التي تكون مقابل الحسينية كي لا يراهم أحد، وما ذلك إلا رغبة منهم إلى الاستماع إلى حسن حديثه وطيب منطقه.

مستقراً:

وحينما رجع إلى القطيف بعد أن غاب عنها أكثر من خمس عشرة سنة قضاها في سبيل الله والدعوة إلى الحق ونصرة الإسلام، رجع ليواصل مشواره التوجيهي والإرشادي والتثقيفي لمجتمعه وأبناء وطنه.

حينما حل بهذا البلد الطيب بعد ذلك الغياب اتخذ من مسجد الشيخ علي المرهون (شافاه الله وحفظه) مقراً له لاستقبال الضيوف، و قد رأينا كيف كان الناس يفدون إليه زرافات زرافات للسلام عليه، ولمدة أسبوع أو أكثر، كان من بين الزائرين له: العلماء الأفاضل، والمثقفون، وعوام الناس المحبين.

بعدها صارت كل منطقة من مناطق القطيف تستضيفه ليحاضر فيها ويستفيد الناس منه، ويقومون بواجب الضيافة له، وهو أهل لاحترام الناس وتقديرهم.

وإن كان هناك من المغرضين من يريد عرقلته وشل منهجه، وإبعاده عن الساحة إلا أنه يبقى صامداً أمامهم كالطود الأشم، مترجماً بذلك سيرة أئمته الطاهرين ، وعلمائنا الكرام كأبيه العالم الروحي المرجع الديني السيد محمد الشيرازي (قدس سره).

ومنذ عودته، اقتصر على مجلس واحد للقراءة الحسينية في موسم المحرم، في حسينية العوامي بالقطيف ومن شدة إعجاب الناس بخطابه ترى الحسينية بطابقيها العلوي والسفلي، يعج بالحضور ناهيك عن الساحة التي أمام الحسينية وهي ساحة كبيرة، ومع ذلك تمتلئ بالحضور، بالإضافة إلى كثير من الناس يجلسون للاستماع له في سياراتهم نظراً لازدحام المكان. وذلك لأن خطيبنا يعرف كيف يختار المواضيع الهامة للمجتمع والتي ترقى بفكر المستمع وتأخذه إلى عالم العلم والمعرفة وشتى الميادين، وهو جدير بطرح أي موضوع سواء كان عقائدياً أو فكرياً، أو اجتماعياً، أو علمياً أو ما شابه، وربما كان ذلك سبباً في اقتصاره على مجلس واحد.

كما أنه اتخذ من مسجد الفتح بالقطيف مقراً له لإقامة صلاة الجماعة، وإن اقتصرت جماعته على ظهر يوم الجمعة ــ وربما كان ذلك لكثرة انشغاله بقضايا المجتمع ــ حيث يلقي سماحته كلمة الجمعة الأسبوعية التي يسلط الضوء فيها على مستجدات الساحة الفكرية والاجتماعية ومتغيرات العصر.

إيثار:

هكذا عرفت الصفار، منذ نعومة أظفاره: عالماً، مفكراً، موجهاً، أديباً، مخلصاً لدينه ومجتمعه، بل ويؤثرهم على نفسه. أتذكر أنني حينما ذهبت لزيارة مرقد العقيلة زينب ، بعد فراق طويل بيننا سببته بعض الظروف القاسرة، سألته أن يكمل دراسته الحوزوية حتى يصل إلى مرحلة الاجتهاد فهو جدير بها بل هو حري حتى بأمر التقليد والفتيا لو كرس نفسه لهذا الأمر.

لكنه أجابني قائلاً:

إن خدمة الناس عندي أهم، الناس بحاجة إلى من يتصدى لهمومهم ومشاكلهم وحل قضاياهم، وفي الساحة الكثير ممن تصدى للدراسة الحوزوية المتقدمة أسأل الله لهم التوفيق.

زادني إعجاباً بإجابته وحبه لأهل مجتمعه، ولكني لا أزال أدعو له وأتمنى له أن يواصل مسيرته العلمية أكثر وأكثر. لأنه لو توجه لذاك فإنه لن يستغرق وقتاً طويلاً لفرط ذكائه.

بالرغم من حمله واهتمامه بقضايا الناس والمجتمع وعزوفه عما طلبت منه من أجلهم، إلا أن بعض الناس من ذوي النفوس المريضة واجهه بالنكران، فبعضهم كتب عنه المناشير التي تنال منه، وبعضهم وهم من الخطباء ويا للأسف يشتمه على المنابر، وكثير منهم في المجالس، وحين سأله ذات مرة بعض محبيه:

شيخنا ما موقفنا ممن يكتب عنك ويشتمك وينال منك؟

قال بكل ثقة ورحابة صدر ووجه مشرق باسم:

هذه (كبسولات) اعتدنا على شربها، المهم أن يكون الإنسان واثقاً مما يعمل وأنه بعين الله تعالى.

نعم هذا هو منطق العلماء العاملين الواعين، بل الأكثر من هذا المنطق أنه كان يصل بعض هؤلاء الناس الذين يشتمونه ويواجههم بوجه طلق المحيا، وبصدر رحب، وكأنهم من أعز أصدقائه حتى استطاع بهذا الخلق الرفيع أن يكسب كثيراً من أعدائه ومناوئيه فأصبحوا الآن يحترمونه ويقدرونه وكثيراً منهم جاء له في مكتبه واعتذر له عما بذر منه من إساءة وشتم.

حري بالقول أن الصفار عملة نادرة من علماء الدين، وفي القطيف بوجه خاص.

وحدة:

سعى الصفار (حفظه الله تعالى) كثيراً لوحدة الناس وتنظيم صفوفهم التي آلت إلى التفرق والانشقاق، سعى بذلك قولاً وعملاً.

ليلة تثبيت هلال عيد الفطر مثلاً، تراه يأخذ الشهود ويمضي بهم إلى العلماء الذين يتصدون لتثبيت الهلال في القطيف حتى يوحد المؤمنين في فطرهم. وسعيه في هذا الجانب واضح للجميع، ومن ذلك أيضاً تأسيسه المجلس ضم فيه أكثر خطباء المنطقة ممن استجاب لدعوته، وهو مجلس له أهداف وغايات منها توحيد كلمة العلماء ولم شملهم.

وجدير بالذكر أن الصفار لم يسع للم شمل مجتمعه الداخلي (الشيعي) فقط، بل سعى جاهداً لتوحيد صفوف المسلمين جميعاً سنة وشيعة، وقد حقق بذلك إنجازات عظيمة لا يستهان بها، أسال الله له مزيد التوفيق.

ختاماً:

لو تحدثت عن شيخنا الجليل، وأردت الكتابة عن علمه وفضله وفكره وكرمه وحسن خلقه وطيب معشره فإنني مهما كتبت سأتهم نفسي بالتقصير، ولهذا أكتفي بهذا القدر.

وفي الختام أضرع إلى الباري عز وجل سائلاً إياه تعالى أن يوفق هذا العالم العامل لكل خير ويعينه على تحقيق مآربه الخيرة وكل مآربه خيرة إن شاء الله وهي لصالح الأمة والدين.

فدم هكذا أيها الشيخ الجليل، شمساً تسبح في سمائنا لتنشر علينا من شعاعها ودفئها. جزاك الله عنا كل خير.

[1]  باحث وكاتب من العوامية، القطيف، السعودية.
[2]  المرشد، للشيخ حسين الفاضلي، العددان 15-16، (2002-2003م / 1423-1424هـ).
[3]  المجادلة: 11
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
عماد
[ الشرقية ]: 23 / 5 / 2007م - 8:24 م
نشكر الحاج عبدالقادر أبو المكارم على هذه الكلمات الرائعة في حق الشيخ الجليل ونسأل الله له الموفقيه ان شاء الله