علوان: الهيئة العليا لصناعة الجدل

 

من يستطيع أن يقرأ مقالاً للشيخ الفاضل الدكتور سعد البريك بمعزل عن عشرات التداخلات، والحوادث الثقافية المحتملة؟ ولاسيما المقال الطويل يبدو محرضاً على الحوادث، وكأنه شارعٌ من شوارع المناطق النائية تم رصفه بنوايا ناقصة عمداً. إذ بدون الحوادث، لا يحدث التجمهر، وبدون التجمهر لا يتحقق الانتباه، وبدون الانتباه لا تصل الفكرة، وإذا لم تصل الفكرة، فلماذا نكتب المقالات، ونرصف الشوارع إذن؟ مقال الشيخ الفاضل نشر في صحيفة المدينة، في الثاني من فبراير، وأنا أتناوله هنا كمثال فقط، ولا أعني به التعرض لشخص الشيخ الفاضل الدكتور سعد البريك من قريب ولا من بعيد، وحتى يعود القارئ الذي يحبذ الاطلاع على المقال أولاً سأترك هنا بعض الزوايا المحتملة للقراءة.

لا الذئاب، ولا كتاب المقالات يهرولون عبثاً ! ولاسيما أولئك الذين تمرسوا على إثارة النقع الإعلامي، وتراكمت عندهم خبرات عميقة في كيفية صناعة الجدل بمواصفات قياسية عالية المستوى، بحيث يدوم طويلاً، ويُشغِلُ كثيراً. ولذلك أصبحت قراءة مقالاتهم تتطلب جهداً بصرياً عالياً، إذ إن السطور المصفوفة تحمل نصف الكلام، ونصفه الآخر وراءها. وبهذا يصبح فعل التنقيب عن الأجندات الخفية صعباً ومرهقاً لمن تعود في الرياضيات على ذلك الطريق الأقصر بين نقطتين، ولكنه في المقابل فعلٌ قد يروق لطائفة أخرى من هواة الحفر، والتحليل، والمراهنات الإيديولوجية. وقد يتحول في آخر المطاف إلى هواية!

وتزداد المشكلة عَوْصَاً عندما يضطر القارئ إلى قراءة هذا المقال في غرفة مليئة بالضجيج الضوئي الذي يجعل الحرف غير الحرف، والكلمة غير الكلمة. وأقصد أن الجهد يصبح مضاعفاً عندما تقرأ مقالاً من النوع المذكور، يتناول قضية منتفخة، لم يبق عقلٌ على وجه الأرض إلا وحشا فيها رأيه. حتى أصبحت هائلة الحجم، فضاقت بها آفاق الذين ظننا آفاقهم أوسع، وانهارت تحتها عقول الذين ظننا عقولهم أقوم، بينما بقية العقلاء الذين لجأنا إليهم لحل المشكلة رأوا أن وقتهم أضيق من أن يعيدوا تلقيننا أبجديات التعايش، فأحالونا إلى التاريخ ليعيننا على القراءة، فزادنا التاريخ جهلاً.

الغرفة التي يكتب فيها الشيخ الدكتور سعد البريك مليئة بالضجيج الضوئي أصلاً كما أسلفت، لأنها قضية الشيعة والسنة الشهيرة، والتي جاءت في الزمن الذي ملّ فيه الزمن نفسه من القضايا المعتادة في صراع الإيديولوجيات بين بني البشر، والسيناريوهات المكررة المحفوظة حول سلوك الأقلية والأغلبية في حالات الصراع، ابتداءً من التنافس السياسي الطبيعي من أجل حقوق وسلطات أعلى، وانتهاءً باختلاق الخرافات الشعبية ودسِّها في أفواه الصبية والعوام لتشويه كل فئة تشويهاً ثقافياً بطيئاً وتراكمياً.

والشيخ الدكتور سعد البريك يكتب مقاله عن شيخ آخر، لا يقل رمزيةً عنه في الجهة المقابلة، وهو الشيخ الفاضل حسن الصفار، وفيه يثني عليه كثيراً، ولكنه يعود فيحمل عليه حملة غير مباشرة، مستخدماً فيها ثلاث أدوات جدلية دجج بها مقاله، وهي أدوات قد تكون مشروعة حتماً في عالم الرأي الكبير، وإن كان الشيخ قد قام بتمويهها تمويهاً جعلها تبدو للأسف أدواتٍ مشبوهة، وهي غير ذلك طبعاً، فتلك ليست من سماته الفاضلة، ولكنها بالطبع أدواتٌ جدلية ثبت عدم صلاحيتها للإصلاح، وعدم أهليتها للتحاور. والشيخ الذي يملك علبة ألوان لغوية جيدة، وصوتاً خطابياً رناناً، يجعلان عمليات التمويه المقالي أسهل من كتابة المقال نفسه، لم يموه مقاله عبثاً، كما أنه لم يكتبه في الأصل لوجه العبث طبعاً. وحاشاه الكتابة العبثية.

الأداة الأولى: هي أداة الحصار، إذ يبدو أن الشيخ الدكتور سعد البريك، سعى منذ الأسطر الأولى إلى محاولة (زنق) الشيخ حسن الصفار في زاوية سياسية عقائدية ضيقة. إذ بدا وكأنه يضعه أمام خيارين: مرجعك، أو وطنك! وهي محاولة غير مفيدة لمسالك الحوار بشكل العام، لسببين، الأول أن الشيخ الدكتور سعد البريك لا يملك الحق السياسي أو الثقافي الذي يجعله مخولاً رسمياً بطرح خيارين كهذين على الشيخ حسن الصفار، لا تشريعياً ولا تنفيذياً، مع احترامنا الكامل لمكانته المعنوية، وهذا يجعل من هذا التخيير الضمني الملمح إليه في المقال، عملية غير مقبولة، إلا إذا كان الشيخ الدكتور سعد البريك يحاول فقط أن يصيغ هذا الخيار، ويقدحه كفكرة حاضرة، ليجعله جاهزاً عندما يحتاجه أحد المؤهلين لطرح الخيار على الشيخ حسن الصفار.

الأداة الثانية: هي محاولة لفت انتباه السلطة السياسية إلى تفاصيل أدق حول الشيخ حسن الصفار. بما يذكرنا بسلوك صحوي قديم اسمه "استعداء السلطة". وكنتُ أظنه سلوكاً منقرضاً منذ منتصف التسعينات، ولكنه ما زال حياً يأتيه رزقه من مقالات عديدة. فالزج بكلمة (الولاء) ست مرات في مقال واحد، وبتصريفات مختلفة، له تفسيرات أقل إذا أخذنا في الاعتبار الأسطورة الاجتماعية المعروفة حول ولاء الشيعة من عدمه. والتي اختلف فيها المختلفون، وتجادل حولها المتجادلون، وأشبعوها شبهات وأدلة. ولهذا بدا أن الشيخ الدكتور سعد البريك بتنويعاته المتكررة على وتر الولاء داخل المقال كان يبدو وكأنه يحاول باجتهاد كبير أن يوصل صوت هذا الوتر واضحاً لمن يهمهم الأمر، ويملكون القرار. وقد حرص الشيخ الدكتور سعد البريك ألا يسقط تساؤل الولاء في زحمة المشاعر الوطنية التي فاضت مؤخراً، وصارت تدعو إلى المساواة والتلاحم والتآخي في وطن واحد، سنته مثل شيعته. فالشيخ الدكتور سعد البريك كان ولا يزال مهموماً جداً بقضية الولاء الوطني، وهو الذي أمعن في استخدامها بكثرة مؤخراً في وجه دعاة المجتمع المدني، ثم رواد السفارات الأجنبية، وانتهاء بالشيعة ومرجعياتهم الدينية.

الأداة الثالثة: ركوب الموجة. فالآن بما أن الشيعة السعوديين بالذات ينعمون بتعامل وطني عادل، لا يهمش دورهم كمواطنين في بلد لا يقسّم المواطنة إلى درجات مثل بلدان أخرى، وبما أن منهجهم العقدي والفقهي الشيعي موجود منذ أزمان، فلماذا الآن بالذات تُناقش أمور مفصلية كهذه؟ ولماذا يفتح الشيخ الدكتور سعد البريك سلسلة من المقالات تخاطب عقلاء الشيعة على حد تعبيره، ناقلاً من مراجعهم كل ما يثير الجدل، ويزيد من التحريض المعنوي ضدهم، ويوسع في الشق الذي تسعى كل الجهود الوطنية إلى رتقه من خلال الحوار؟ هل هي أحداث العراق وارتفاع الصوت الشيعي؟ أم إنها ميكانيكية دفاعية عفوية لترسيخ أحد المنهجين كأصل وطني، والآخر كفرع قد يقبل، وقد لا يقبل؟

بدا للقارئ وكأن سلسلة المقالات هذه هي محاولة للدخول مع الشيعة في مناظرة غير مكتملة الظروف. فمقالات الشيخ الدكتور سعد البريك تحمل مضموناً صريحاً بأن عقلاء الشيعة لا يكونون عقلاء إلا بقدر ما يتفقون مع السنة في المنهج وتفسير التاريخ، وكأنه كلما ابتعد المنهج الشيعي عن السني صار حامله أقرب للجهل منه إلى العقل. وبالتالي صار المنهج السني الذي يتكلم الشيخ الدكتور سعد البريك من منبره هو المعيار الذي يتم على أساسه تقسيم الشيعة، كل الشيعة، إلى إما عقلاء أو جهال. ترى أي حوار هذا؟ وأي مناظرة هذه؟ وما الفائدة المرجوة من سلسلة مقالات الشيخ الدكتور سعد البريك، في هذا الوقت بالذات، وفي الظروف الراهنة للمنطقة، طائفياً، وسياسياً؟ وهل هي محاولة لفرد العضلات السياسية على شريحة معينة من أبناء الوطن الواحد؟ والسعي المقصود إلى "فضحهم" فضحاً مرتباً وممنهجاً وموقوتاً؟ وهو سعي وهمي بطبيعة الحال.

في الوقت الذي تنهار فيه دول مجاورة، وتتفكك مثل كتل مشروخة من أرض جافة، أعتقد أن أول ما نحرص عليه هو لُحمتنا الوطنية. وذلك هدفٌ واحد، بمرجعيات متعددة. وإذا كانت صناعة الجدل الوطني الممتاز، الذي يشغل أناساً أكثر، ولوقت أطول، تأتي في سياق ضرورة اجتماعية وثقافية ووطنية يحتملها الوقت الحالي مع عمر الوطن، مما يعلمه الشيح الدكتور سعد البريك ويخفى على بعض قارئيه، فمن الضروري أن يتم تنظيم هذه العملية بحيث لا تأتي عشوائية، فما المانع من إنشاء "الهيئة العليا لصناعة الجدل" إذن؟ لعلها تقوم على ترتيب الأجندات الضرورية لهذا الجدل، وحجم الطاقات المطلوب إهدارها، والأهداف المطلوب تشتيتها، والعداوات المطلوب تغذيتها. وهكذا، ربما يتحول الجدل من مجرد صراع مقالي، إلى مشروع وطني.

* كاتب سعودي.
جريدة الوطن السعودية، الخميس 4 صفر 1428هـ ـ 22 فبراير 2007م.