الانغلاق الفكري

 

يقول تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ. [سورة محمد: الآية: 16].

يعيش الإنسان في عالم مليء بالحقائق والأسرار، وقد زوّده الله تعالى بقدرات عقلية، ليسعى لإدراك أكبر قدر يمكنه من حقائق الكون وأسرار الحياة.

وكلّما تقدّم في سعيه للمعرفة بما حوله في هذا العالم من حقائق، كان أقرب إلى الكمال، وأقدر على تطوير حياته، وتحقيق طموحاته وتطلّعاته.

ولأنّ آفاق المعرفة رحبة واسعة، فإنّ السعي لها يجب أن يكون مكثفًا متواصلًا، فمهما اكتسب الإنسان من العلم والمعرفة، فإنه في بداية الطريق.

يقول تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. [سورة الإسراء، الآية: 85].

ورد عن الإمام علي : «اَلْعِلْمُ لاَ يَنْتَهِي، اَلْعِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ»[1] .

لكنّ أكثر الناس يعيشون كسلًا فكريًّا، فلا يهتمون باكتساب المعرفة، ولا يصرفون جهدًا في إعمال فكرهم وقدراتهم الذهنية.

العلم لا نهاية له

البعض قد يكتفي بتحصيل قدر من المعرفة، ويتصور أنّ في ذلك غنًى له، وأنه بلغ الغاية، وهو نوع من الغرور والجهل.

ورد عن الإمام علي : «مَنِ اِدَّعَى مِنَ اَلْعِلْمِ غَايَتَهُ فَقَدْ أَظْهَرَ مِنْ اَلْجَهْلِ نِهَايَتَهُ»[2] .

إنّ الله تعالى يأمر نبيّه محمدًا أن يطلب من الله المزيد من العلم، يقول تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا. [سورة طه، الآية: 114].

والقرآن يحدّثنا عن نبي من أعظم الأنبياء، ومن أولي العزم، وهو نبي الله موسى ، الذي قال عنه تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا. [سورة النساء، الآية: 164].

(وهي مزية خاصة لموسى لم تكن لغيره من الأنبياء حتى عرف بينهم بـ (كليم الله) وهو نوع من أقسام الوحي)[3] .

ومع عظمة هذا النبي، إلّا أنه ذهب يبحث عن شخص لديه مزيد من العلم.

يقول تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا. [سورة الكهف: الآية: 60].

إلى أن يقول تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا ‎﴿٦٥﴾‏ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا. [سورة الكهف: الآيات: 65-66].

ولم يذكر القرآن اسم ذلك الرجل، فالمهم هو الدرس والعبرة، لكنّ الروايات في المصادر الإسلامية، تقول إنه الخَضِر.

وتشير روايات وردت في مصادر شيعية وسنية: أنّ هذه القصة حدثت بعد أن (قَالَ فِي نَفْسِهِ مَا أَرَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ خَلْقًا أَعْلَمَ مِنِّي فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَبْرَئِيلَ يَا جَبْرَئِيلُ أَدْرِكْ عَبْدِي مُوسَى قَبْلَ أَنْ يَهْلِكَ وَقُلْ لَهُ إِنَّ عِنْدَ مُلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ رَجُلًا عَابِدًا فَاتَّبِعْهُ وَتَعَلَّمْ مِنْهُ)[4] .

وفي صحيح البخاري عن رسول الله : «أنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا في بَنِي إسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عليه، إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ، فَقالَ له: بَلَى، لي عَبْدٌ بمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هو أَعْلَمُ مِنْكَ»[5] .

وفي مصادرنا الشيعية روايات تفيد أنه (لولا أنّ الأئمة يزدادون لنفد ما عندهم) وهو عنوان باب في أصول الكافي، ج1، ص254.

وباب آخر بعنوان (أنّ الأئمة يزدادون في ليلة الجمعة) ج1، ص253.

ورد بسند صحيح عَنْ زُرَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ [الإمام محمد الباقر] يَقُولُ:‌ «لَوْ لَا أَنَّا نَزْدَادُ لَأَنْفَدْنَا»[6] .

وجاء بسندٍ صحيح عَنْ ذَرِيحٍ الْمُحَارِبِيِّ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو عَبْدِاللَّهِ [الإمام جعفر الصادق] ‌ «يَا ذَرِيحُ لَوْ لَا أَنَّا نَزْدَادُ لَأَنْفَدْنَا»[7] .

داء الجمود والانغلاق

إنّ أسوأ داء يصيب الإنسان في الجانب الفكري والمعرفي؛ هو الجمود والانغلاق، أن يتوقف عند مستوى معيَّن، بينما تتجدّد المعارف، وتتطور العلوم، أو ينغلق على ما لديه من رأي، ولا يبحث عن الرأي الآخر، ولا ينفتح عليه، ويرفضه مسبقًا دون أيّ بحث أو تأمل.

والانغلاق الفكري يعني مبالغة الإنسان في الثقة بأفكاره وآرائه، بحيث يرفض مناقشتها ومراجعتها، ويأبى الانفتاح والاطلاع على غيرها.

وقد تكون أفكاره نتيجة قناعات ذاتية، أو اقتبسها من غيره، أو اكتسبها من بيئته الاجتماعية.

إنّ أيّ فكرة عند الإنسان تحتمل الصواب والخطأ، لمحدودية علم الإنسان وإحاطته. وقد تكون صائبة وصالحة في وقت، ثم يتجاوزها الزمن، بتطور الحياة وتقدّم العلم.

وحتى الأفكار التي تحملها النصوص الدينية، فإنه يدخل في فهمها الاجتهاد البشري، ويحتمل في ذلك الفهم الصواب والخطأ، وقد يتغيّر ويتطور فهم النص باختلاف الأزمنة والظروف.

لذلك اختلف العلماء والمفسّرون في معاني آيات القرآن الكريم، كما اختلفوا في قبول الأحاديث عن النبي والأئمة ، وفي تشخيص مراداتها وتطبيقاتها.

ومن هنا جاءت شرعية الاجتهاد، والقول بمعذورية المجتهد عند الخطأ.

أسوأ ظلم تجاه النفس

إنّ كلّ ذلك يعني ضرورة الانفتاح الفكري لتجاوز الخطأ والاقتراب من الصواب. ومواكبة تطور العلم والحياة.

أما الانغلاق الفكري فهو أسوأ ظلم يمارسه الإنسان تجاه نفسه.

وقد تصبح المعارف التي تلقّاها الإنسان من أسلافه أو بيئته سقفًا لفكره، فلا يرى أنّ هناك شيئًا أصح وأصوب منها. كما يتحدّث القرآن الكريم عن أقوام الأنبياء، الذين كانوا يرفضون الرسالة الإلهية، اكتفاءً بما ورثوه من آبائهم.

يقول تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۚ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ. [سورة المائدة، الآية: 104].

العقل المقفل

وقد سلّط القرآن الكريم الأضواء في آيات كثيرة على هذا الدّاء العضال الذي يُوقع الإنسان فيه نفسه، داء الانغلاق الفكري، حيث أشارت بعض الآيات إلى أسبابه النفسية والسلوكية، كتقديس الآباء والأسلاف، وممارسة التكبر والتجبّر، كما تناولت بعض الآيات النتائج والآثار الخطيرة للانغلاق الفكري على شخصية الإنسان وحياته في الدنيا والآخرة.

واستخدم القرآن لهذه الحالة عدّة مصطلحات وعناوين، على سبيل الكناية والمجاز.

منها مصطلح الختم على القلب، كقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. [سورة الجاثية، الآية: 23].

وقوله تعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ. [سورة البقرة، الآية: 7].

والمقصود بالقلب هنا هو العقل والإدراك، والختم يستخدم في اللغة العربية، لسدّ الإناء سدًّا محكمًا بالطين ونحوه حتى لا ينفذ إلى داخله الهواء، ويستخدم كذلك في إغلاق ظروف الرسائل والكتب، بختمها بالطين حتى لا يفتحها أحد.

هكذا تطلق الآيات القرآنية على حالة الانغلاق الفكري مصطلح (الختم على القلب) مجازًا، فهو الإغلاق على العقل، ومنع نور العلم والمعرفة من الوصول إليه.

كما استخدم القرآن الكريم مصطلح الطبع على القلب، كقوله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ. [سورة محمد، الآية: 16].

وقوله تعالى: ﴿كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ. [سورة غافر، الآية: 35].

والطبع على القلب الذي ورد في أكثر من عشر آيات، مأخوذ من الاستعمال اللغوي لكلمة الطبع في الضرب على الشيء لتثبيته على حالة أو صورة مخصوصة، كطبع الدرهم وطبع الكتاب.

واستخدمته الآيات الكريمة مجازًا لوصف حالة الجمود وعدم حركة العقل، تشبّثًا وبقاءً على حال الضلال.

في المقابل يبشّر الله تعالى بالهداية عباده الذين يستفيدون من عقولهم، في البحث عن الحقّ والصواب، والانفتاح على مختلف الأفكار، لاتباع الأفضل والأحسن.

يقول تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ ‎﴿١٧﴾‏ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. [سورة الزمر، الآيتان: 17-18].

وهناك عدّة آيات في القرآن الكريم أطلقت على حالة الانغلاق الفكري مصطلح (الأكنة) جمع كنان، وهو الغطاء، ويجمع على أغطية، فيقال: أكننته أي حفظته بالستر، واكتنّت المرأة أي غطّت وسترت وجهها.

يقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ. [سورة الأنعام، الآية: 25].

ويقول تعالى: ﴿وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ. [سورة فصلت، الآية: 5].

إنّ الانغلاق يشبه وضع الغطاء والستر على العقل، وحجب أشعة نور المعرفة عن الوصول إليه.

التربية على الانغلاق

هناك جهات تربّي أتباعها على الانغلاق الفكري، وتحذّرهم من الانفتاح على أيّ رأي آخر، أو العلاقة مع أيّ جهة خارجها، وهذا ينتج تبعية عمياءَ، تشلّ فكر الاتباع وتُجمّد عقولهم، وتمنعهم من الوصول إلى الهداية والصواب، عبر الدليل والبرهان.

بينما تؤكد النصوص الدينية أنّ الحقّ أحقّ أن يتبع، وأنّ الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أولى بها.

وبعض الناس يُغلقون نفوسهم وقلوبهم عن استقبال الموعظة والنصيحة، فيتبلّد وجدانهم وتقسوا نفوسهم، وتترسخ الأخطاء في سلوكهم.

ورد عن الإمام علي : «أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ»[8] .

وعنه : «اِقْبَلُوا اَلنَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ، وَاِعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ»[9] .

وعنه : «طُوبَى لِمَنْ أَطَاعَ نَاصِحاً يَهْدِيهِ»[10] .

والبعض حينما تواجهه مشكلة أو تحدٍّ يتصلب في موقفه فلا يدرس الخيارات المختلفة، ولا يكون مستعدًّا للتنازل والمرونة، مما يعرّضه للفشل في حلّ المشكلة وتجاوزها.

 

خطبة الجمعة 2 جمادى الآخرة 1445هـ الموافق 15 ديسمبر 2023م.

[1]  غرر الحكم ودرر الكلم، ص57.
[2]  نفسه، ص667.
[3]  السيد عبدالأعلى السبزواري، مواهب الرحمن، ج10، ص170.
[4]  الشيخ الصدوق: علل الشرائع، ج1، ص60.
[5]  صحيح البخاري، حديث 122.
[6]  الكافي، ج1، ص255، ح3.
[7]  نفسه، ج1، ص255، ح2.
[8]  نفس المصدر، ص140.
[9]  نهج البلاغة، خطبة: 109، من خطبة له في بيان قدرة اللّه وانفراده بالعظمة وأمر البعث.
([10)] غرر الحكم ودرر الكلم، ص429.