الصراعات الداخلية في المجتمع

الشيخ حسن الصفار *
قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[1]

مجتمع المؤمنين مجتمع بشري، والإيمان بالله تعالى وبالدين لا يُبدّل طبيعة الإنسان وإنما يُشذّبها ويُرشّدها، وبالتالي فإن الإنسان هو الإنسان بغرائزه وميوله. قد يتصور البعض أن المؤمنين لا يقع بينهم صراعٌ ولا نزاع، وهذه نظرةٌ مثالية تصلح طموحاً وتطلعاً، لكنها لا تتحقق على أرض الواقع، فماداموا بشراً فإنه من الممكن أن تحدث بينهم صراعات ونزاعات.

دوافع الصراعات:


دوافع الصراعات والنزاعات في المجتمع الإيماني هي نفسها في المجتمعات غير الإيمانية، وغالباً ما تصدر من أحد باعثين:

الأول: الاختلاف المصلحي، فحينما تتضارب المصالح يحصل الصراع، سواءً كانت المصالح مادية، أو وجاهية، أو سياسية.

الثاني: الاختلاف في الآراء والتوجهات، إذا أن تعدد الآراء والانتماءات قد يكون سبباً للصراع والنزاع في مجتمع المؤمنين كما في سائر المجتمعات.

سبب نزول الآيات الكريمة:


كتب التفاسير حينما تتحدث عن المورد الذي نزلت فيه الآيتان الكريمتان من سورة الحجرات، تنقل روايات عن نزاع حصل بين مجموعتين من قبيلتي الأوس والخزرج في عهد رسول الله ، وهما قبيلتان في المدينة المنورة كانت بينهما حروب تاريخية ولما جاء الإسلام حصل ببركته وئامٌ بينهما، ولكن هذا الوئام لا يعني أن كل آثار الفترة الماضية قد انتهت، وتُشير الروايات أن أسباب الصراعات التي تحصل بين القبيلتين بين فينةٍ وأخرى أغلبها تافهة، والأشخاص الذين يبدؤون النزاع من هذه القبيلة أو تلك هم غالباً من ذوي الأغراض، وقد استخدمت في هذا الصراع الذي نزلت الآيتان بسببه بعض مقدمات العنف كسعف النخيل والأحذية.

ضوابط وحدود:


النزاعات والصراعات حين تحصل في مجتمع المؤمنين، يجب أن تواجهها ضوابط وحدود من أهمها:

أولاً: التأكيد على الالتزام بالأخلاقيات والحدود الشرعية.

ثانياً- أن يتحمل المجتمع مسؤوليته تجاه هذا النزاع الذي يحصل في ساحته.

فموقف التفرج على الصراع خطأ، وعلى المؤمنين تحمل المسؤولية.

والله تعالى في الآيات الكريمة يُوجه أمراً لجميع المؤمنين بأن يتخذوا الموقف الصائب تجاه الصراع الذي يحصل في ساحتهم، ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.

طبعاً الاقتتال في الاصطلاح يعني الحرب بالسيف، ولكن هذا هو الحد الأعلى، وأي نزاع يُمكن أن يُطلق عليه اقتتال، والآية تُشير إلى ذلك. وعادةً أي نزاع إذا لم يُعالج يُرشّح للتصاعد، ولذلك تؤكد الآية الكريمة على ضرورة المبادرة لمعالجة الصراع: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا.

ويُشير أحد المفسرين إلى اختلاف الضمائر في الآية الكريمة، ففي بداية الآية التعبير بصيغة الثنية: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ، ثم انتقل إلى الجمع: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، وعاد إلى المثنى ثانيةً: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا، فيقول: إن النزاع غالباً ما يبدأ بين شخصين أو مجموعتين، ولكنه إذا تصاعد تتوسع دائرة المشاركين في الصراع لتشمل الجميع، وإصلاح النزاع لا يتم عبر كل الأفراد المشاركة في الصراع، وإنما بين الشخصيات البارزة والزعامات، لذلك عاد التعبير في الآية الكريمة إلى الثنية.

وأمر الله تعالى بالإصلاح دليل على وجوب ذلك وأنه على المؤمنين أن لا يقفوا موقف المتفرج على الصراعات التي تحصل في ساحتهم.

المسؤولية تجاه البغي والعدوان:


ثم يقول تعالى: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وهذه مسألة هامة ففي النزاعات والصراعات غالباً ما يكون هناك تجاوز من فئةٍ على الأخرى، ومجتمع المؤمنين عليه مسؤوليتان:

المسؤولية الأولى: الدعوة إلى الصلح.

هناك نصوص وأحاديث كثيرة حول إصلاح ذات البين، يقول تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[2]، ويقول تعالى: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ[3]. وقد ورد عن رسول الله أنه قال: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قيل: ما هو؟ قال : إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة». وفي حديث آخر عنه أنه قال لأبي أيوب الأنصاري : «يا أبا أيوب ألا أخبرك وأدلك على صدقةٍ يُحبها الله ورسوله؟ قال نعم، ما هي؟ قال : تُصلح بين الناس إذا تقاتلوا وتباعدوا».

فالإسلام يأمرنا بإصلاح ذات البين، وهو واجبٌ كفائي إذا قام به وحققه البعض سقط عن الكل وإلا فالجميع آثمون.

وإصلاح ذات البين يعني السعي على مختلف المستويات والأصعدة، على المستوى العائلي، وعلى المستوى الاجتماعي.

وموقف التفرج غير صحيح:

لأن الإنسان المؤمن مطلوبٌ منه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأي معروف أفضل من الوئام والوحدة، وأي منكرٍ أسوأ من الخصومة والنزاع.

كما أن النزاع والصراع يضر بالمجتمع كله، وليس المقصود بذلك وجود التنوع والاختلاف في الرأي والموقف، وإنما تحوله إلى نزاع وصراع يهدد أمن المجتمع واستقراره.

لذلك ينبغي على المجتمع أن ينتج سعياً وجهداً لأداء واجب الإصلاح، وذلك يحتاج إلى إنتاج ثقافة واعية تدفع باتجاه الإصلاح والوئام، ويحتاج إلى تظافر جهود المصلحين، وأما ما يقوم به البعض من تذمرٍ في المجالس بسبب حدوث بعض النزاعات في المجتمع وبين الشخصيات البارزة، فهذا لا يُسهم في حل المشكلة إن لم يُعقّدها أكثر. فعلى كل شخص واع أن يُطالب نفسه بدور تجاه ما يحصل في المجتمع من النزاع والصراع.

المسؤولية الثانية: إدانة البغي ومواجهة الاعتداء

حينما يكون هناك عدوان من فئة على أخرى، فأبناء المجتمع لا يصح لهم أن يكونوا محايدين، بل يجب أن يكون هناك موقف ضدَّ الجهة المعتدية، يقول تعالى: ﴿فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، أما موقف الحياد لا يصح، وذلك لأمرين:

الأول: موقف الحياد يُعتبر نوعاً من الخذلان للطرف المظلوم. وقد وردت نصوص عن لزوم إعانة المظلوم، يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب : (أحسن العدل إعانة المظلوم)، وقال في وصيته الأخيرة لولديه الحسنين (عليهما السلام): (كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عونا). والإمام زين العابدين في دعاء مكارم الأخلاق يعتبر عدم مساعدة المظلوم ذنباً يستغفر الله تعالى منه، يقول : (اللهم إني أعتذر إليك من مظلومٍ ظٌلم بحضرتي فلم أنصره). فلا يصح للمجتمع أن يتفرج حينما يكون هناك اعتداءٌ من فئةٍ على أخرى.

الثاني: حينما يُسكت عن الظلم فإنه يتفشّى وينتشر.

ولذلك يجب أن يكون هناك موقف تجاه الطرف المعتدي، فالاختلاف في الرأي مشروع، ولكن الاعتداء ظلم ولا يصح السكوت عنه.

الاعتداءات المعنوية:


وليس هناك فرق بين أن يكون العدوان مادياً أو معنوياً، فوجوب رفض العدوان يشمل الجانبين.

كثير من الناس يسكتون أمام الاعتداءات المعنوية من هذا الطرف على ذاك، وهذا لا يصح شرعاً. فحينما يكون حديث على أي فئةٍ أو شخصيةٍ في المجتمع، فعلى من يستمع إلى ذلك الحديث أن يُشخِّص الموقف، فإذا كان الحديث في إطار توضيح نقاط الاختلاف في الرأي ووجهات النظر بين الأطراف أو الشخصيات المختلفة في المجتمع، فهذا بحث ونقاش علمي وصراع ثقافي مقبول، ولكن إذا كان في الحديث اعتداء وإسقاط للفئة الأخرى أو تشكيك في دينها أو اعتداء على أعراضها، فهنا لا يصح السكوت وإنما ينبغي أن يكون هناك رفض واعتراض.

فعلى المؤمنين أن يكون لهم موقف واضح تجاه أي اعتداء، بمختلف الوسائل والطرق: كاللسان والقلم، لأن الجهة المعتدية إذا رأت أن هناك رفضاً من المجتمع لممارساتها فإن أقل نتيجة مرجوة هي وضع حد لمثل هذه الممارسات.

من المؤسف أن بعض الجهات تلقى تشجيعاً من بعض الدائرين في فلكها فتظن أن هذا يُعبّر عن رأي المجتمع، وقد يكون أكثرية المجتمع غير راضين، ولكنها أكثرية صامتة، فعلى الأكثرية الصامتة أن تخرج من صمتها لتدين وترفض البغي والعدوان على الأطراف الأخرى.

وإذا لم ترفض فئةً ما البغي والعدوان على الفئات الأخرى فلتنتظر دورها من العدوان والبغي عليها، وقد رأينا ذلك عياناً.

فينبغي أن تُؤسس حالة اجتماعية لإدانة ورفض البغي والعدوان حتى تكون هناك حصانة للمجتمع ككل من الإصابة بهذه الآفة.

وتختم الآيات الكريمة بالتأكيد على أخوة المؤمنين: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، والمؤمنون تعني جميع من آمن بالله تعالى ورسوله واليوم الآخر فهم أخوة، ونهج الإصلاح ينبغي أن يسود بينهم جميعاً.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين
[1] سورة الحجرات، آية: 9-10
[2] سورة الأنفال، آية: 1
[3] سورة النساء، آية: 114