النقد الذاتي الاجتماعي

الشيخ حسن الصفار *
قال تعالى: ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ[1] 

الله سبحانه وتعالى في هاتين الآيتين الكريمتين، يُقسم بأمرين عظيمين:

الأول: القسم بيوم القيامة، ﴿لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، و ﴿لا ليست نافية للقسم، وإنما مؤكدة له. ومعروف للجميع عظمة وأهمية يوم القيامة، إنه اليوم الذي يُحشر فيه الناس ويُحاسبون، ويتقرر مصيرهم الأبدي.

الثاني: القسم بالنفس اللوامة، ﴿وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، واقتران الأمرين في القسم يُشعر بأنهما على درجةٍ متقاربة من العظمة والمكانة.

ما هي النفس اللوامة؟


اللوامة: من اللوم، واللوم معاتبة الإنسان نفسه، ومراجعته لها، لكي يُحاسبها على الخطأ. وعندما تكون هذه الحالة دائمة عند الإنسان، يُطلق على نفسه: النفس اللوامة.

الله سبحانه وتعالى جعل في نفس الإنسان هذه الخاصية، تماماً كوجود المناعة في جسم الإنسان ضد الأمراض، وإذا اخترق نظام المناعة لدى الإنسان فإن حياته تكون معرّضة لجميع الأخطار، وهذا ما يُعبر عنه الآن بالمرض الخطير (الإيدز).

فالنفس اللوامة نظام مناعة روحي عند الإنسان، في مقابل جراثيم الذنوب والأخطاء، فمن طبيعة الإنسان أنه إذا أخطأ تحرّك ضميره وأشعره بالخطأ، وفي لحظات التأمل يُحاسب الإنسان نفسه على أخطائه. ولكن إذا فُقدت هذه الحالة، بسبب تراكم الذنوب والأخطاء، عندها لا يعود الخطأ باعثاً للمحاسبة والمراجعة. فيخرج الإنسان من دائرة (النفس اللوامة) ويبقى منحصراً في دائرة (النفس الأمارة)، ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، ويكون الإنسان حينها في منطقة الخطر والهلاك، إلا أن يُنقذه الله تعالى، ﴿إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي.

النقد الذاتي ضرورة وصعوبة:


النفس اللوامة: تعني أن الإنسان يواجه نفسه، ويُحاسبها على الأخطاء، وهذا أمرٌ مهم، لأن محاسبة النفس والنقد الذاتي بمقدار ما هي عملية ضرورية إلا أنها عملية صعبة.

النقد الذاتي ضرورة، لأن الإنسان إذا لم يقم بنقد ذاته يسترسل في الخطأ، أما إذا انتقد ذاته وحاسب نفسه فإنه يُنقذ نفسه من ذلك الخطأ ويتجاوزه. وهي تُشبه إجراء الفحوصات الدورية على الجسم لاكتشاف أعراض الأمراض، ومعالجتها قبل استحكامها في الجسم.

فالنقد الذاتي ضرورة ولكن فيه صعوبة، سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي.

على المستوى الفردي:


أولاً- النقد الذاتي يُحمل الإنسان مسؤولية التغيير، والمواجهة مع الشهوات الأهواء.

فالخطأ إنما يحصل بسبب الهوى والغفلة، وحينما يقوم الإنسان بعملية النقد الذاتي، يكون وجهاً لوجه أمام داعي الهوى والشهوة، وأمام حالة الغفلة والاسترسال، وهذه عملية صعبة.

ففي كثير من الأحيان إذا سيطر الهوى على نفس الإنسان فإن الإنسان يبقى منشدّا لهواه وشهوته. إنه في لحظة التأمل يُدرك ضرورة تجاوز الخطأ، ولكن جاذبية الهوى والشهوة تجعل عملية الارتداع عن الخطأ عملية صعبة فيبقى الإنسان في حالة صراع مع نفسه، لذلك تجد البعض من أجل أن يُريح نفسه من هذه المعركة والصراع الداخلي، يبتعد كلياً عن محاسبة نفسه ومراجعتها.

ثانياً- النقد الذاتي يُشعر الإنسان أنه في موقف هزيمة وتراجع أمام الآخرين.

الإنسان عندما يكون له رأي معين أو موقف، فإنه عندما ينتقد ذاته، قد تكون نتيجة ذلك أن يتراجع عن رأيه وموقفه، وهذا يُشعره بأنه في حالة هزيمة أمام الآخرين، وغرور الإنسان لا يسمح له بأن يضع نفسه في هذا الموضع فيكابر ولا يعترف بخطئه حتى لا يظهر أمام الآخرين وكأنه انهزم.

على المستوى الاجتماعي:


كل مجتمع من المجتمعات معرض لأن تكون فيه أخطاء، في الأفكار وأنماط السلوك. وقد لا يكون الخطأ ذاتياً، وإنما تغير الظروف والأوضاع تجعله خطأ، فقد تكون ممارسة من الممارسات في وقت من الأوقات صحيحة، ولكن مع تغير الزمن تُصبح تلك الممارسة خطأ وتحتاج إلى تغيير ومعالجة.

وغالباً ما يكون النقد الذاتي في المجتمعات أمراً صعباً، وخاصةً في المجتمعات التي تغيب فيها الأجواء المساعدة على النقد، مثل حرية التعبير عن الرأي وحرية الفكر. هنا يُصبح المجتمع في حالة تنزيه لذاته، ويكون هناك غفلة عن المشاكل الداخلية، وغالباً ما تكون وسيلة التغطية على المشاكل الداخلية توجيه الأنظار إلى العدو الخارجي.

فنجد أن بعض الأنظمة السياسية في العالم العربي توجه الأنظار للأعداء الخارجيين، وتحاول بين فترةٍ وأخرى أن تفتعل مشكلة خارجية، حتى تصرف أنظار الناس عن المشاكل الداخلية الموجودة.

وعلى المستوى الثقافي والاجتماعي يعيش العالم العربي والإسلامي هذه المشكلة بشكلٍ أو بآخر، فتجد أن الناس يتحركون ضد مشكلة خارجية، ولكنهم بصعوبةٍ بالغة يتحركون ضدّ خطأٍ في الداخل.

لماذا يسهل علينا الاعتراض على عدوان الآخرين علينا، لكن في المقابل نتغاضى عن الأخطاء الداخلية؟

وتجد مثل هذه الحالة قائمة بين المذاهب المختلفة أيضاً، فكل طرف يتجه نحو أخطاء الطرف الآخر، فالشيعي يبحث في الأخطاء الموجودة في كتب السنة، وهو بذلك يُحقق رصيداً إيجابياً بين جماعته، وكذلك الحال بالنسبة للسني. ولكن هل يتمكن الباحث الشيعي أو السني من مناقشة الأخطاء الموجودة في تراثه؟ كلا. لذلك أصبحت الأخطاء مغضوضاً عنها، وأصبحنا ننطوي على الأخطاء الموجودة في التراث والتقاليد.

هذه الحالة سائدة في المجتمعات المتخلفة، أما المجتمعات المتقدمة فإن حالة النقد الذاتي متوفرة، إن المعارضة فيها جزءٌ من النظام السياسي، بينما في غالب المجتمعات العربية تُعتبر المعارضة إجراماً.

ولو قرأ الإنسان مذكرات كبار العلماء عند السنة أو الشيعة يجد أن من يتوجه للنقد الذاتي الداخلي يُنبذ ويُحاصر.

والأسوأ من ذلك أن الأجواء الدينية تواجه حتى التطوير في الوسائل بمعارضة شديدةٍ فضلاً عن نقد التراث والممارسات.

وهنا سؤال يطرح نفسه: هل نحن متأكدون أن كل الأفكار والممارسات في مجتمعنا صحيحة؟ وإذا كانت صحيحة، أليس هناك ما هو أصح منها؟ يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ[2] .

فلماذا لا يكون هناك مجال للنقد؟ هناك عدة أسباب تعترض حرية النقد:

أولاً- شعور يسود البعض بأن انتقاد بعض الأمور وإن كانت بسيطة، يعرّض مجمل البناء للهدم. ولكن كما أنه يجب علينا أن نخاف من أن يكون هناك تفريط، فإن الحذر من الإفراط مطلوب، وكما نخاف من أن نقد غير الصحيح قد يطال الصحيح، فإنه يجب علينا أن نخاف من أن السكوت على غير الصحيح قد يقودنا إلى خطأٍ آخر، وقد يُعمّق الأخطاء الموجودة.

ومن جهةٍ أخرى فإن هذا الإشكال دليل على أن ثقتهم بالعقيدة والدين هشّة، ولكنهم لو عرفوا قوّة الإسلام وجوهره لعلموا أن هذه الجزئيات لا تؤثر على مجمل البناء.

ثانياً- القول بأن عملية النقد تُظهر ضعفنا أمام الآخرين. وهذا الكلام مضى وقته، لأنه لم يَعد هناك أمور مخفية. إضافةً لذلك فإن النقد الذاتي أصبح الآن مظهر قوة وليس مظهر ضعف، فالجهة التي تنتقد ذاتها وتُصحح أخطاءها أقرب إلى الاحترام من الجهة التي تتستر على الأخطاء. وإذا كانت المسألة ذات بعد ديني، فهناك مسؤولية دينية لأنه بأي حق نتستر على خطأ فيه ضرر على الدين ومصالح المؤمنين بهذه المبررات الواهية؟.

ثالثاً- وجود قوى منافسة في كل مجتمع تحمي الحالة السائدة، ففي المجتمع بعض الجهات تعتبر أن من مسؤوليتها حماية الحالة السائدة، فليس لديهم قضية يُدافعون عنها أو يُبرزون قوتهم فيها، فيكون الدفاع عن السائد هو ساحتهم وميدانهم لاستقطاب الآخرين إليهم، بالتالي تجدهم يرفضون أي نقد أو تصحيح أو تطوير، وهذا يعني أمرين:

الأول: أن نقطة الضعف تبقى في المجتمع، فتضعفه أمام الآخرين.

الثاني: حصول ردود فعل داخل المجتمع عند الشباب والناشئة الذين ينفرون من الأفكار والحالات غير المقنعة.

بالطبع لا يعني هذا الكلام أن أي نقد هو مصيب وصحيح، فقد يكون هناك خطأ أو اشتباه في تشخيص ما يستحق النقد، ولكن ما نصبوا إليه هو أن لا يكون النقد بذاته جريمة، وأن لا يكون الحديث عن الخطأ فيه إدانة. والمشكلة أن هذا الإرهاب الفكري يطال العلماء والمفكرين في المجتمع، فيقعد بهم عن إعلان موقفهم أو رأيهم تجاه أي قضية أو ممارسة في المجتمع. وهذا وضعٌ خطير وخاطئ على مستوى المجتمعات والطوائف، وعلى مستوى الأمة الإسلامية بشكلٍ عام. وأين نحن عن النصوص التي تدعو الإنسان المسلم لمحاسبة نفسه، يقول الإمام علي : «من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر»[3] ، ويقول : «ثمرة المحاسبة صلاح النفس»[4] .

وأيضاً: لماذا لا نستفيد من تجارب الآخرين، وبقية المجتمعات التي شرّعت النقد في مجتمعاتها فتقدمت، بينما مجتمعاتنا تعيش حالة ممانعة من أي نقد ذاتي. ونكرر هنا أنه ليس كل نقد مصيباً، ولكنه عامل قوة للمجتمع وإيضاح للحقيقة. من هنا تأتي أهمية النقد الذاتي والإصلاح الداخلي على مختلف الأصعدة والمستويات.
[1]  سورة القيامة، 1-2
[2]  سورة الزمر، 18
[3]  نهج البلاغة، قصار الكلمات، حكمة رقم: 208
[4]  ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج:1 ص: 620