الإمام المهدي بين العقل والنقل

الإسلام دين العقل، وعقائده قائمة على النظر والتفكير، وهو يرفض الأساطير والخرافات، وينهى الإنسان عن الأخذ بشيء قبل التأكد منه ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أو أن يقلد الآخرين ويتبعهم في آرائهم وأفكارهم دون حجة وبرهان.

ومن هنا قال أكثر علماء الإسلام بوجوب الاجتهاد والنظر في أمور المعتقدات، ولا يصح فيها التقليد والاتباع، وإنما يصح التقليد في المسائل الفقهية الفرعية، لمن لم يبلغ درجة الاجتهاد والاستنباط، أما العقائد فلا تقليد فيها.

وآيات القرآن الكريم تؤكد مرجعية العقل للإنسان، ففي عشرات الآيات ورد قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ و ﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون و ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وتبلغ الآيات التي وردت فيها مشتقات هذا اللفظ حوالي خمسون آية.

أما الآيات التي تتحدث عن التفكّر وتأمر به، وتحث عليه، فهي حوالي ثماني عشرة آية، كقوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ، ﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ، ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.

إضافة إلى ما ورد في الآيات الكريمة حول التفقه والنظر والعلم، وغير ذلك، مما يظهر بجلاء ووضوح مرجعية العقل ومحوريته في الإسلام، ولذا فلا مجال في المعتقدات الإسلامية للخرافات والأساطير، ولا يتبنى المسلم أي قضية فكرية إلا بعد التعقّل والبرهنة والاستدلال.

نوعان من المعتقدات

الأول: معتقدات يعتمد فيها على العقل بشكل مباشر، ولا شأن للنقل في تحصيل الإيمان بها، كأصول العقيدة، مثل الإيمان بوجود اللَّه تعالى، وبالنبوة، حيث تقود الإنسان إلى ذلك فطرته النقية، وعقله السليم، وليس النصوص والأحاديث والآيات.

الثاني: معتقدات يعتمد فيها على النقل ولكن ضمن مرجعية العقل، وذلك على أساس الضوابط التالية:

 ـ أن تكون الجهة التي صدر عنها النقل مورد اعتماد العقل واطمئنانه، وهي الجهة المعصومة، التي لا يشك العقل في صدقها ونزاهتها، كالقرآن الكريم والنبي المرسل، والإمام المعصوم.

 ـ أن يثبت النقل عن تلك الجهة بطريق عقلائي شرعي، وأن تكون الدلالة فيه على المراد صحيحة ظاهرة عند العقلاء.

 ـ أن لا تكون مخالفة للأحكام العقلية القطعية، كاجتماع النقيضين، وارتفاعهما، ووجود المعلول بلا علة، وانقسام الثلاثة إلى عددين صحيحين، وقبح الظلم وحسن العدل.

وعلى ضوء ما سبق فإننا كمسلمين نؤمن ببعض المعتقدات التي وردت من مصدر شرعي معتمد، وبسند صحيح ثابت، مادامت لا تخالف الضرورات العقلية، والإيمان بها ضمن هذه الضوابط ليس خارج دائرة العقل، بل في ظل مرجعيته وهديه.

الظواهر الإعجازية

نعم، هناك بعض القضايا الواردة دينياً، قد يبدو لأول وهلة، أن الإيمان بها يخالف العقل، وأنها من سنخ الخرافات والأساطير، وذلك لأنها غير مألوفة الحدوث والحصول، وتعتبر خارقة للمعادلات والقوانين العادية المعروفة.

إلا أننا يجب أن ندقّق ونفّرق بين ما يكون مخالفاً للعادة والمألوف، وما يناقض العقل ويصادمه.

إن كثيراً من التطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، لو حُدِّث بها إنسان القرن الماضي أو ما سبقه من قرون، لرفض التصديق بها، أو احتمال وجودها، إذا كان ينظر إليها من خلال ما اعتاده وألفه، أما إذا قدِّر له أن ينظر إليها من خلال الإمكان العقلي والمنطقي، فلن يجد مانعاً من التصديق بها.

والتطور العلمي في حياة الإنسان المعاصر، يساعدنا كثيراً، في فهم العديد من الظواهر الخارقة، التي يحدثنا الدين عنها، ونذكر الآن منها بعض النماذج، والتي يؤمن بها المسلمون لثبوتها دينياً، في الوقت الذي لا تصادم حكم العقل.

برداً وسلاماً على إبراهيم

انتقال الحرارة من الجسم الأكثر حرارة، إلى الجسم الأقل حرارة، حتى يتساويان، قانون طبيعي معروف، لذا فإن أي جسم يلقى في النار يحترق بلهيبها، لكن نبي اللَّه إبراهيم الخليل وجسمه كسائر أجسام البشر، ألقاه قومه في تلك النار المضطرمة التي أوقدوها لإحراقه، فلم يصب بأي أذى، وخرج منها مبتسماً يقول تعالى: ﴿قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ[سورة الأنبياء: الآيات 68 ـ 70].

إن المسلم يؤمن بذلك دون أي شك وتردد مادامت القصة مذكورة في القرآن، وليس مقاومة الاحتراق أمراً ممتنعاً ومستحيلاً من الناحية العقلية، ونحن نرى الآن كيف تطورت وسائل تمنع الأجسام ضمن شروط معينة من الاحتراق.

ولد من دون أب

القانون الطبيعي المألوف، أن إنجاب الإنسان يتم عبر تلاقي الذكر والأنثى معاً وليس مألوفاً أن يحصل التوالد عبر أحدهما فقط، لكن القرآن الكريم يخبرنا عن ولادة نبي اللَّه عيسى بن مريم من دون أب، ولقد استغربت حتى أمه مريم حينما بشرتها الملائكة بذلك، فهي ما مسّها رجل ولم تتزوج فكيف يمكن أن تلد؟

يقول تعالى: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ[سورة آل عمران: الآية47].

وما دام القرآن قد أخبر بهذا فنحن نؤمن به وهو أمر غير طبيعي عادة، وغير مألوف، ولكنه غير مستحيل عقلاً، وما تجارب الاستنساخ التي حصلت في هذه السنوات الأخيرة إلاّ تأكيد لهذه الإمكانية.

الإسراء والمعراج

ويعتقد المسلمون بالإسراء والمعراج، حيث أسرى اللَّه بنبيه محمد من مكة المكرمة، إلى المسجد الأقصى في فلسطين، ثم عرج به إلى السماوات العلا، في رحلة إعجازية في عمق الفضاء والزمن، وعاد إلى فراشه في الليلة نفسها قبيل طلوع الفجر.

إن حصول ذلك وخاصة في ذلك العصر، أمر مستنكر، يوجب الرفض والتكذيب، لكن الخبر الصادق الذي جاء به القرآن يفرض علينا القبول والتصديق، يقول تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[سورة الإسراء: الآية1].

صحيح أنه أمر غريب ومخالف للعادة والمألوف، لكن العقل لا يحكم باستحالته وامتناعه، وتطور وسائل المواصلات الجوية، وارتياد الإنسان للفضاء، وغزوه للكواكب الأخرى، جعل الصورة أوضح أمام إنسان اليوم.

الإمام المهدي

وضمن هذا السياق يأتي الاعتقاد بالإمام المهدي المنتظر حيث ثبت ذلك بالنقل الذي يقره العقل، إذ إن الأحاديث الواردة عن النبي محمد . والواردة عن أئمة أهل البيت فاقت حدّ التواتر.

قال الشيخ ابن تيمية: «إن الأحاديث التي يحتج بها على خروج المهدي أحاديث صحيحة رواها أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم»[1] .

وتحت عنوان: (خروج المهدي حقيقة عند العلماء) ذكر المحدث السلفي المعاصر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أسماء ستة عشر عالماً من كبار أئمة الحديث قد صححوا أحاديث خروج المهدي[2] .

ونشرت مجلة البحوث الإسلامية الصادرة عن رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء ـ الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بحثاً للشيخ يوسف البرقاوي تحت عنوان (عقيدة الأمة في المهدي المنتظر) جاء فيه:

 «إن موضوع المهدي من علامات الساعة الكبرى وأشراطها العظمى التي أخبر عنها رسول اللَّه ، فأشراط الساعة الكبرى من الأمور الغيبية التي كلف اللَّه عباده بالتصديق بها، والإيمان بمدلولها، وعقيدتنا تملي علينا وجوب الإيمان بذلك».

ونقل عن السفاريني الحنبلي قوله:

 «من أشراط الساعة التي وردت فيها الأخبار وتواترت في مضمونها الآثار من العلامات العظمى وهي أولها أن يظهر الإمام المهدي المقتدى بأقواله وأفعاله الخاتم للأئمة فلا إمام بعده، كما أن النبي هو الخاتم للنبوة والرسالة فلا نبي ولا رسول بعده»[3] .

وقد جمع الشيخ لطف اللَّه الصافي في كتابه (منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر) الأحاديث الواردة حول الإمام المهدي من كتب الفريقين السنة والشيعة فبلغت (6277) حديثاً[4] .

فخروج المهدي المنتظر آخر الزمان مسألة ثابتة عند المسلمين على اختلاف مذاهبهم إلا من شذ منهم، لورود خبرها من جهة يؤمن العقل بصدقها، ولأنها جاءت بطرق صحيحة مقبولة شرعاً وعقلاً.

كما يتفق علماء المسلمين على أن المهدي من عترة الرسول ومن ولد فاطمة الزهراء لكن هناك اختلافاً في تفاصيل هذه العقيدة، كسائر العقائد الإسلامية التي تتعدد المدارس والمذاهب الكلامية في بعض جوانبها وتفاصيلها كالتوحيد والنبوة والمعاد. ويأخذ كل فريق بما يصح ويثبت لديه.

ويعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام المهدي الذي بشّر رسول اللَّه بخروجه، قد ولد في الخامس عشر من شهر شعبان سنة 255هـ، وأبوه الإمام الحسن العسكري، من نسل الإمام الحسين بن علي وفاطمة، وأنه لا زال ينتظر أمر اللَّه تعالى لممارسة دوره العالمي، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

لأن النص قد ثبت لديهم من جهة معصومة بذلك، فهم ملزمون بقبوله والإيمان به، هناك أحاديث صحيحة ثابتة عن رسول اللَّه يتحدث فيها عن اثني عشر إماماً أو أميراً أو خليفة لهذا الدين، ولهذه الأمة، وقد ورد ذلك في صحيح البخاري، وأخرجه الترمذي وأحمد ابن حنبل وأبو داود وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة تحت رقم (1075) [5] .

ولا ينطبق هذا العدد إلا على الأئمة الاثني عشر من أهل البيت .

تبقى مسألة إمكان العيش والحياة طوال هذه الفترة وكيف يمكن تعقلها؟

فإن العقل لا يرى استحالة ذلك، بل إن العلم جادّ في البحث والسعي، لكي يستطيع الإنسان تجاوز أعراض الشيخوخة والهرم، وليتمتع بعمر أطول في هذه الحياة.

وإذا ما ثبت النص الشرعي على وجود الإمام المهدي، فإننا نقبله كظاهرة إعجازية، كما نقبل عدم احتراق نبي اللَّه إبراهيم في النار، وولادة عيسى بن مريم من دون أب، والإسراء والمعراج وأشباه ذلك، فكل هذه القضايا ليست ممتنعة عقلاً، وإنما هي خارقة للعادة ومخالفة للمألوف فقط.

إن القرآن الكريم يحدثنا عن حياة نبي اللَّه نوح عمراً طويلاً، حيث استغرقت فترة نبوته إلى وقت الطوفان 950 سنة، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ[سورة العنكبوت: الآية 14]، هذا عدا سنوات حياته قبل النبوة وبعد الطوفان.

وسواء كان ذلك خاصاً بالنبي نوح أو أن أعمار البشر في ذلك الوقت كانت على هذا المستوى، فهو يدل على إمكان الحياة لفترة تتجاوز المتعارف والمألوف.

لا للتهريج والتشنج

عاشت أمتنا الإسلامية عصوراً من التخلف، سادت فيها حالة التعصب المذهبي، والنـزاعات بين الطوائف والفرق، ولم تحصد الأمة من كل ذلك إلا التمزق والضياع، والانشغال عن بناء قوتها، ومواجهة التحديات الخارجية، ومؤكد أن أعداء الإسلام يشمتون باحتراب المسلمين، ويصبّون الزيت فوق نار الفرقة والنـزاع.

ويفترض الآن أن يتجاوز المسلمون تلك الحالة المزرية، مع تطور مستوى الوعي، وتوفر وسائل التواصل والانفتاح، وإذا كانت كل فرقة ترى أن الحق والصواب معها، فإنها تتحمل مسؤولية معتقداتها وآرائها أمام اللَّه تعالى، وليكن البحث عن الحقيقة هدفاً للجميع، وذلك عبر الدراسة الموضوعية لموارد الخلاف، والحوار البنّاء بعيداً عن التهريج والتشنج، إن القرآن الكريم ينهى المسلمين أن يتجادلوا مع اليهود والنصارى بأسلوب غير مؤدب، ويقول: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[سورة العنكبوت: الآية46]، فهل يرضى القرآن بما يمارسه بعض المسلمين تجاه بعضهم من تهريج وشتم واستهزاء، كما يظهر أحياناً على بعض مواقع ساحات النقاش في الإنترنت، أو برامج القنوات الفضائية؟ وهل يدل هذا الأسلوب إلا على سوء الخلق، أو ضعف الحجة أو خدمة مصالح الأعداء؟

 

* كلمة الجمعة بتاريخ 11 شعبان 1420هـ
[1]  ابن تيمية الحراني: شيخ الإسلام أحمد، منهاج السنة ج4 ص211 الطبعة الأولى، المطبعة الكبرى الأميرية ـ مصر 1322هـ.
[2]  الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج4 ص38 حديث رقم1529 الطبعة الأولى: الدار السلفية ـ الكويت، المكتبة الإسلامية ـ الأردن 1983م.
[3]  البرقاوي: يوسف بن عبد الرحمن، عقيدة الامة في المهدي المنتظر، مجلة البحوث الإسلامية عدد49 ص304 ـ 305.
[4]  الصافي: لطف اللَّه، منتخب الاثر، الطبعة الثانية 1385هـ مركز الكتاب، طهران – ايران.
[5]  الألباني: محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة ج3 ص63، الطبعة الثانية 1987م مكتبة المعارف ـ الرياض.