رسالات الأنبياء إيمان وتطبيق

يحتاج الإنسان إلى هدي إلهي يوجهه في مختلف شؤون حياته، وقد تلقى الإنسان ذلك الهدي، على يد أشخاص اختارهم اللَّه لكي يبلغوا رسالته للناس، هم الأنبياء.

وقد يظن البعض من الناس أن الإنسان مادام يملك عقلاً فهو ليس بحاجة إلى الأنبياء، لأن العقل يعطي الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر، وإدراك النافع من الضار، والحسن من القبيح.

وقد يدور هذا التساؤل في ذهن الإنسان المعاصر اليوم، كما كان مطروحاً في الماضي، غير أن طرحه اليوم، يتم بشكل أعمق وأقوى مما كان يطرح به في السابق، ذلك أن الإنسان استطاع أن يحقق بعقله إنجازات كبيرة، زادت ثقته بعقله، إلى الحد الذي يظن معه أنه وصل إلى ذروة الاعتماد على الذات، وأنه ليس بحاجة إلى جهة من خارجه.

والجواب عن هذا التساؤل والتشكيك، هو نفسه الجواب الذي طرحه الإلهيون والموحدون على الماديين والمنكرين للنبوة، فالسؤال لم يتغير بل ازداد إلحاحاً، والجواب أيضاً لم يتغير بل ازداد وضوحاً.

فالبشرية تحتاج إلى الاتصال بالسماء والهدي الإلهي في مجالات ثلاثة:

أولاً: الحاجة المعرفية

فالعقل رغم ما يملكه من قدرات وطاقات، إلا أنه غير قادر على سبر كل الأمور، واختراق كل الحواجز والموانع، التي تقف في طريق حصوله على الكثير من الأجوبة المعرفية، التي يبحث عنها، والأمر المهم هو أن القضايا التي يعجز العقل عن تقديم الجواب الشافي لها، هي مسائل مهمة، وكبيرة وخطيرة للغاية، تتعلق بمبدأ الإنسان ونشوئه، والغاية من خلقه وتكوينه، إلى جانب هذا النظام الكوني الذي يحيط به، والمستقبل الذي ينتظره فيما بعد..

فما هي تلك القوة التي خلقتنا وكيف؟ وما هو طبيعية ارتباطنا بها وارتباطها بنا؟ وهذه أسئلة لا يستطيع العقل أن يجيب عنها..

نعم، يمكن له أن يقرر أن له خالقاً، وأنه لم يخلق من العدم، وأنه لم يخلق نفسه بنفسه ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[سورة الطور: الآية 35] غير أنه لا يستطيع أن يجيب عمَّا هو أكثر من هذا، ليس لخلل في ذات العقل، بل لأن اللَّه سبحانه وتعالى لم يعطه أكثر من هذه القدرة.

والوحي الإلهي هو الكفيل بالإجابة عن هذه التساؤلات، ومن دون ذلك سوف يعيش الإنسان غير مدرك للعلة في وجوده، والغاية من بقائه، وسوف يؤثر ذلك حتماً على تحقيق سعادته، لأنه سوف يبقى مضطرباً قلقاً مشككاً، علّه يثير هذه التساؤلات وهو غير قادر على الإجابة. وحتى لو توصل إلى حل لكل المشاكل العلمية والمعرفية الأخرى، وبقيت هذه المسألة الجوهرية بلا معرفة تروي غليله فيها، فسيكون ذلك القلق عاملاً من عوامل شقائه وتعاسته.

وأنّى لهذا العقل أن يصل بنفسه إلى تلك الحقائق؟ فهو لم يدرك بعد حتى كل المعلومات المادية المحسوسة التي يحتاج إليها، ويعترف العلماء الذين كانوا رواداً في اكتشافاتهم العلمية بذلك، فهذا إينشتاين يقول: «إن نسبة معلوماتي إلى مجهولاتي كنسبة هذا السلم الصغير في مكتبتي إلى مكتبتي الضخمة الكبيرة»، أي إن ما يجهل أكثر بكثير مما يعلم.

ولا أدلّ على هذه الحقيقة، من تدرج الإنسان في زيادة علومه، وتطور معلوماته وأفكاره، فالإنسان في كل يوم يكتشف علماً أو قانوناً علمياً جديداً، مما يعني أن هنالك أشياء أخرى سوف يكتشفها في المستقبل، وهو لا يعرفها الآن، والواقع أن الإنسان يتوصل غالباً في المراحل المتقدمة من العلوم إلى معلومات أهم من المعلومات القديمة.

وإذا كان لم يدرك كل الحقائق المادية، فكيف يحيط بالحقائق الغيبية، حول ابتداء مصيره وانتهاء مسيره؟ وهي المعرفة الضرورية التي يحتاجها قبل أي معرفة أخرى، كيف يدرك من الذي خلقه، ولماذا خلقه، وما هو مصيره..؟

 ـ فإما أن يبقى الإنسان ضالاً عن هذه المعرفة الضرورية، والملحة عليه دائماً.

 ـ وإما أن يتدخل اللَّه اللطيف الخبير ليدل العباد عليه برسله، لأنه جل وعلا منزه عن أن يحرم عباده معرفة ضرورية لهم، ومنزه أيضاً عن أن يجعل لعباده الحجة عليه، فيعتذروا له يوم القيامة أنهم لم يطيعوه لأنهم لم يكونوا يعرفونه، ولا يعرفون المسائل الضرورية لهدايتهم إلى عبادته وطاعته، فأرسل اللَّه الرسل حتى تكون له الحجة البالغة على خلقه ﴿قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ[سورة الأنعام: الآية 149]، وقال عز من قائل: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[سورة النساء: الآية 165].

إن النبوة تمد العقل بالحقائق الثابتة لهذا العالم الغيبي، فتهذب شعور الإنسان به وتعمقه، وتوقفه على الحقائق، وترسم له طريق الاتصال به.

ثانياً: الحاجة الاجتماعية

يعيش الناس مجتمعين مع بعضهم البعض، فلا بد لهم من نظام لإدارة شؤونهم، ولتقنين العلاقات فيما بينهم..

ووضع نظام اجتماعي شامل، يستلزم معرفة عميقة بالإنسان، في طبائعه وغرائزه وميوله، كما يستلزم معرفة دقيقة بالكون الذي يحيط بالإنسان، والحياة التي تحتضنه.

وأنى تتوفر هذه المعرفة والإحاطة إلا عند خالق الإنسان والكون؟ ﴿أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ[سورة ق: الآية 16].

من ناحية أخرى فإن تشريع نظام اجتماعي شامل، يحتاج إلى موضوعية وتجرّد، بحيث لا يكون المشرّع منحازاً لجهة، أو خاضعاً لمصلحة، أو متأثراً برغبة أو هوى.

وحينما يعتمد الإنسان على نفسه في وضع نظام كهذا، فإنه سيتخبط من تجربة فاشلة إلى أخرى، والتاريخ المعاصر يرينا كيف عانى نصف المجتمع البشري تقريباً، من التجربة الماركسية الشيوعية حتى انهارت، وماذا يعاني البشر الآن من الهيمنة الرأسمالية الغربية، التي يدعي بعض منظّريها أنها نهاية التاريخ حسب تعبير (فرانسيس فوكوياما).

لذا يعتقد الإلهيون بحاجة البشرية إلى هدي اللَّه، الذي يمنحها نظاماً اجتماعياً يصلح شؤونها، ويوجه مسيرتها، إلى السعادة والتكامل.

ثالثاً: الحاجة الأخلاقية

نظرة الإنسان للقانون الذي يحكمه، تختلف فيما إذا كان ذلك القانون من عند البشر أنفسهم، أو من لدن خالق البشر..

ففي حالة كونه قانوناً بشرياً، فإن الإنسان لن يشعر بوازع ذاتي عميق في الالتزام به، والامتناع عن مخالفته، ولهذا فقد يتحايل عليه ويمزقه، وهو يدعي أنه يطبقه.

أما حينما يكون القانون سماوياً، وأن الذي أمر به هو خالق الناس، فإن هذا القانون سيملك ـ حينئذٍ ـ قوة داخلية في نفس كل فرد، تدفعه إلى تطبيقه، لاعتقاده بأن الذي خلقه يراقبه في كل أعماله وتصرفاته، وأنه سوف يحاسبه على مخالفته.

وربما يعترض البعض على أن هذه الأخلاق سوف تكون حينئذٍ سلوكاً مفروضاً على الإنسان، بفعل قوة عليا، هي اللَّه جل وعلا، بينما ينبغي أن يكون الفعل الأخلاقي مجرداً عن أي ضغط وإكراه.

غير أن هذا الاعتراض غير دقيق، لأن الفعل سوف ينطلق من إرادة الإنسان الحرة، أما أنه تعالى يثيب على الخير، ويعاقب على الشر، فهذا هو مقتضى العدل، وكون الإنسان مختاراً.

وما تهدف إليه القوانين والتشريعات السماوية، هو أن يجعل الإنسان من نفسه مستودعاً للأخلاق الفطرية النقية، التي تنسجم مع الإيمان والعقيدة، وأن تكون العقيدة هي الدافع والمحرك للأعمال الخيرة، وأن يكون السلوك الحسن انعكاساً لحسن الاعتقاد، ونقاء الإيمان.

العلمانيون وتطبيق الشريعة

أن يتساءل الإنسان عن مدى الحاجة إلى الأنبياء، فذلك تساؤل طبيعي، يقوده إلى الإيمان بالأنبياء، إن استخدم عقله وتفكيره بشكل موضوعي ومنطقي.

أما أن يتساءل المسلم، والمؤمن بالرسول، والمقر برسالته، عن الحاجة إلى تطبيق الشريعة التي جاء بها الرسول من عند ربه، فذلك تساؤل غريب عجيب!!

لأن معنى الإقرار والإيمان بالرسول، حينما يقول المسلم: «أشهد أن محمداً رسول اللَّه» هو الخضوع لشريعته وتطبيق رسالته ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا[سورة الحشر: الآية 7]. فما دمت تؤمن بأنه رسول، وأن ما جاء به هو رسالة من اللَّه إليك، فكيف يجوز لك أن تتساءل أو تشكك أو تتردد في تطبيقها؟.

إن من المؤسف حقاً أن نسمع بين فترة وأخرى أن بعض المسلمين في البلاد الإسلامية يتحفظّون على تطبيق الشريعة.

كما أن من المؤسف أن يصبح مجرد الدعوة إلى تطبيق الشريعة في بعض البلدان الإسلامية، جريمة تعاقب عليها الدولة، وأن تمنع بعض البلدان الإسلامية بعض المظاهر الإسلامية، كالحجاب وإقامة الشعائر الإسلامية، وأن تعد بعض هذه الأمور أو غيرها جريمة يُدان بسببها الإنسان، كما هو الحال في تركيا ـ مثلاً ـ وهي دولة إسلامية، بل كانت قبل زمن قصير عاصمة الخلافة الإسلامية، وأكثرية شعبها مسلمون، لكن الدعوة إلى تطبيق الإسلام فيها تعتبر جرماً، ولبس الحجاب في المؤسسات الرسمية جريمة، يعاقب عليها، كما حصل للنائبة (مروة قاوقجي)!

إن لرفض بعض الناس فكرة تطبيق الشريعة أسباباً من أهمها:

السبب الأول: عدم وضوح الشريعة ونظامها بالشكل الكافي، وما هو النظام الإسلامي الذي نريد أن نطبقه؟ ما هي معالمه ومرتكزاته؟ وما هي حدوده وقيوده؟ أكثر المسلمين اليوم ـ للأسف ـ لا يعرفون تفاصيل النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ولا يستوعبون إلا بعض الأحكام والتشريعات العبادية فيه، بينما لا يشكل هذا الجانب سوى جزء من نظام وقانون متكامل، يفي بحاجات الإنسان كاملة، وليس الجانب العبادي وحده، وفي كثير من الأحيان ترتبط فكرة تطبيق الشريعة في أذهان الناس، بمجرد إقامة الحدود والعقوبات على المحرمات، وذلك أمر خاطئ فالحدود والعقوبات جزء من نظام متكامل.

ولو أمكننا أن نعرض ونبين للعالم النظام الإسلامي بأكمله بأسلوب مناسب، لما أثيرت هذه التساؤلات ولأخذت الشريعة موقعها في المجتمعات الإسلامية والبشرية.

السبب الثاني: التطبيقات المشوهة للإسلام في عهود تاريخية سابقة، حيث استغل الإسلام كغطاء لممارسات منافية لحقوق الإنسان، وللعدالة الاجتماعية، بل وبعض التطبيقات المعاصرة التي مورست باسم الإسلام ألحقت بصورته أذىً وتشويهاً كبيراً، كما يحصل في أفغانستان.

ورغم أن هناك نماذج مشرقة وطيبة لتطبيق الإسلام في الماضي والحاضر، غير أن الأنظار تتجه للاحتمال الأسوأ، والنموذج الأبرز والأغلب.

لذا يخشى الكثيرون أن يكون تطبيق الإسلام، نوعاً من الرجوع إلى الوراء، واستعادة التجارب القاسية في التاريخ، أو محاكاة الحالات السيئة في الوقت الحاضر.

السبب الثالث: الانهزام أمام الفكر المادي والغربي:

فذلك الفكر متسلح بالعلم والتكنولوجيا، والتطور المدني، أما المسلمون فيعيشون حالة متخلفة، وعندما يفكر بعض الناس في واقع التخلف الذي يعيشه المسلمون، يتصور واهماً، أن الحل هو في التخلي عن الدين والشريعة!!

وللإعلام الأجنبي، والثقافة الغربية، دور في نشر هذا التصور وتكريسه في الأذهان، خاصة وأن أقلاماً من أوساط المسلمين تبنت الترويج والتبشير بالفكر الغربي.

فما هو الحل إذن؟

أولاً: لا بد من فتح باب الاجتهاد، من أجل اكتشاف وكشف أنظمة الإسلام وبرامجه، وتجاوز هذا الركام من التصورات المشوهة الخاطئة، وتوضيح مفاهيم الإسلام، وتبيين الأنظمة والمناهج الإسلامية، في مختلف مجالات الحياة.

ثانياً: ينبغي أن نقوّم تجاربنا التاريخية والحالية بكل جرأة وشجاعة وتجرد، وأن نوضح للعالم وللأجيال، الجوانب المضيئة منها، التي تمثل الإسلام، ونعترف بالجوانب المظلمة فيها التي هي مخالفة للإسلام ولا يرضاها، وأن لا نتبنى كامل التجارب السابقة وننسبها للإسلام.

ثالثاً: أن نتسلح بمعنوياتنا الرفيعة، وأن لا ننهزم أمام أي تشويه، ونتخلى عن مبادئنا مع أبسط مواجهة وتحدٍّ..

إن علينا أن نستعيد قوتنا المعنوية الكبيرة، وأن ندرك أن سبب تخلفنا ليس هو تطبيق الإسلام، وإنما على العكس من ذلك.. إن سبب تخلفنا هو ترك العمل بالإسلام!!

وإلا فديننا هو دين الحق وهو سبيل الخلاص للبشرية، لإنقاذها من الويلات والمآسي، وكما قال الشاعر:

يقولون في الإسلام ظلماً بأنه

                 يصد بنيه عن طريق التقدم

فإن كان ذا حقاً فكيف تقدمت

                 أوائله في عصرها المتقدم

وإن كان ذنب المسلم اليوم جهله

                 فماذا على الإسلام من جهل مسلم

 

وبعد.. فإننا في مناسبة ذكرى المبعث النبوي، لابدّ أن يفكر كل واحد منا بما يتوجب عليه أن يقوم به، من الالتزام برسالة النبي ، وشريعته المقدسة، التي جاء بها، وإلا فإننا حينئذٍ نكون ممن يدعي الإسلام وهو لا يطبقه، فيشملنا ـ لا سمح اللَّه ـ توبيخ الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ!![سورة الصف: الآيتان 2 ـ 3].

* كلمة الجمعة بتاريخ 27 رجب 1420هـ