نحو حياة عائلية سعيدة

 

تختلف الروايات التاريخية حول سنة ولادة السيدة فاطمة الزهراء ، هل كان قبل البعثة النبوية بخمس سنوات كما يرى أكثر علماء أهل السنة؟ أم بعد البعثة بخمس سنوات كما يرى علماء الشيعة؟ ولكنها تتفق على تحديد اليوم والشهر تقريباً، حيث تنص أكثر الروايات على أن ولادتها كانت في العشرين من شهر جمادى الآخرة.

ولنا أن نتصور مدى الفرحة التي غمرت قلب رسول اللَّه بولادة بضعته الزهراء .

أولاً: لكمال إنسانيته وعمق عواطفه، فلا بدّ أن يستبشر بتفتق برعم إنساني جديد في أحضانه.

ثانياً: لما أطلعه اللَّه تعالى عليه عبر وحيه من فضل هذه المولودة ومكانتها عند اللَّه تعالى، وإن استمرار نسله وذريته المباركة سيكون من خلالها.

وثالثاً: لانعكاس شمائله على محياها وطلعتها المشرقة.

يقول الدكتور محمد عبده يماني:

وقد استبشر الرسول بمولدها وقال لزوجته خديجة: يا خديجة إنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأن اللَّه تعالى سيجعل نسلي منها. ولهذا كانت مثار اهتمام أبيها، ولا سيما أنها كانت تشبهه، فقد روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أنس بن مالك : كانت أشد الناس شبهاً برسول اللَّه بيضاء مشربة بحمرة، لها شعر أسود.

وعن أم المؤمنين أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: كانت فاطمة بنت رسول اللَّه أشبه الناس وجهاً برسول اللَّه .

وعن عائشة أم المؤمنين (رضي الله عنها) أنها قالت: ما رأيت أحداً من خلق اللَّه أشبه حديثاً وكلاماً برسول اللَّه من فاطمة.

رضي اللَّه عنها وأرضاها.. فقد كانت نطفة طاهرة، ونسمة كريمة باهرة.. وسيدة فاضلة، أشبه ما تكون بسيد الخلق، وقد ورثت المجد من كل جانب، وحازت الفضل[1] .

في ذكرى مولدها المبارك، نريد أن نقتبس من هدي سيرتها العطرة، ما ينير لنا شيئاً من دروب الحياة، لذلك سنحاول التقاط صورة مشرقة عن جانب حياتها العائلية، لنستلهم منها الدروس والعبر، ولنصوغ حياتنا الأسرية العائلية على هديها.

إن الأسرة هي المهد الأول في تربية الإنسان، وتبقى هي كهفه وحصنه الذي يحميه، والذي يلجأ إليه عندما يواجه أي تحدٍّ أو مشكلة في حياته.

وكلما كان ارتباط الإنسان بعائلته قوياً ووثيقاً كان تأثره بأجوائها ومثلها وقيمها قوياً أيضاً، فمن هذه الأسرة يتعلم الطفل اللغة، ويتعلم السلوك والتصرفات، وهي التي تشكل عادة خط الدفاع الأول عن شخصية الإنسان ومشاكله، ويؤكد القرآن الكريم الاهتمام الكبير بالعائلة حينما يطلب المؤمن من ربه أن يعطيه عائلة تكون له قرة عين ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا[سورة الفرقان: الآية 74].

والدعاء بشيء يعكس الرغبة في تحقيقه، والسعي من أجل إنجازه، مع التماس توفيق اللَّه تعالى لذلك، ومعونته في تذليل العقبات والموانع.

و(قرة العين) إما مأخوذة من كلمة (قر) بمعنى البرد، لأن العين في حالة السرور والفرح قد تسكب دموعاً باردة، فيكون المعنى: اجعلنا مسرورين فرحين بعوائلنا إلى حدِّ نسكب فيه دموع الفرح الباردة من أعيننا، فهي كناية جميلة.

وإما أنها مأخوذة من (قرّ) بمعنى ثبت واستقر، ذلك إن الإنسان حين يبحث عن شخص أو شيء يتلفت بعينه يميناً وشمالاً فإذا وجد ما يريد قرّ نظره، أي استغنى عن الالتفاف والبحث ببصره، فيصبح المعنى: اجعل نفوسنا مطمئنة مرتاحة لوضعنا العائلي حتى لا نبحث عن الراحة والاطمئنان في أي مكان آخر.

ولكن ما هي الأمور التي تساعد على أن تكون العائلة قرة عين للزوجين؟ إذا استعرضنا حياة السيدة الزهراء العائلية، فسنجدها تجربة رائعة صالحة للاقتداء والتمثّل، فهي المثال الكامل الذي قدمه الإسلام لنا حتى نتبعه لكي نصل إلى هذا الهدف السامي.

فكيف كانت الحياة العائلية والأسرية للسيدة الزهراء وزوجها الإمام أمير المؤمنين ؟

وقفة مع حديث الكساء:

من المفيد جداً إذا ما أردنا أن نشكل لنا صورة عن تلك الحياة الأسرية العظيمة، أن نستنتج العبر من مناسبة شهيرة مرت على بيت الزهراء وبيت أمير المؤمنين، وروتها كتب المسلمين جميعاً وهي قصة حديث الكساء، التي رويت في كثير من المصادر، غير أن كتب ومصادر أهل البيت روتها بتفاصيلها الشيقة المفيدة.

وقد صدر أخيراً شرح جميل مفصل لحديث الكساء، واستنباط الأحكام والآداب والمفاهيم من فقراته بقلم المرجع الديني الإمام السيد محمد الشيرازي حفظه اللَّه ويقع في 320 صفحة تحت عنوان (من فقه الزهراء).

وقد يكون من أسباب تشجيع أهل البيت وحثهم على قراءة حديث الكساء وتداوله إضافة إلى تبيين مقام العترة الطاهرة هو أن الحديث ينقل صورة عن واقع العلاقة والتعامل داخل الأسرة النبوية الشريفة، حيث نقرأ فيه أن كل فرد من العائلة حينما يدخل البيت يبدأ بالسلام على أهله، فالرسول الأعظم يدخل على ابنته الزهراء مبتدءاً بالسلام، والإمام الحسن وهو طفل صغير يدخل البيت مسلماً على أمه الزهراء وكذلك فعل أخوه الإمام الحسين الأصغر منه حينما دخل بعده، وكذلك أبوهما علي حينما يدخل البيت يبدأ بالسلام على زوجته الزهراء.

كما نقرأ في حديث الكساء الاحترام المتبادل بين أفراد العائلة حيث استأذن الحسن جده رسول اللَّه ليدخل معه تحت الكساء وكذلك فعل أخوه الحسين وأبوهما علي وأمهما الزهراء.

وفي حديث الكساء نقرأ إعلان كل واحد من أفراد العائلة محبته وثناءه على الفرد الآخر وإشادته بخصائصه حيث تخاطب السيدة الزهراء كلاً من ولديها بقولها: يا ولدي وقرة عيني وثمرة فؤادي. ويخاطب الحسين جده قائلاً: السلام عليك يا جداه السلام عليك يا من اختاره اللَّه. ويحيي الإمام علي زوجته الزهراء بقوله: السلام عليك يا بنت رسول اللَّه. فتجيبه: وعليك السلام يا أبا الحسن ويا أمير المؤمنين.. إلى كثير من العبارات الواردة في الحديث وهي تحكي محبة كل منهم للآخر وإشادته بشخصيته.

ومن حديث الكساء نستشف قيمة اللقاءات والجلسات العائلية الودّية التي تملأ نفوس أفراد العائلة بالمحبة والحنان والاحترام، وتتيح الفرصة لهم لتبادل المشاعر والأفكار وتزيد الانشداد والتماسك العائلي، وقد ورد في الحديث عن رسول اللَّه : «جلوس المرء عند عياله أحب إلى اللَّه تعالى من اعتكاف في مسجدي هذا»[2] .

بينما تفتقر الكثير من العوائل في بعض مجتمعاتنا إلى أجواء العطف والحنان حيث ينشغل الرجل في عالمه الخاص وهمومه الخاصة وكذلك المرأة ويقضي الأولاد أكثر أوقاتهم أمام التلفاز والكمبيوتر أو مع رفاقهم من خارج العائلة.

إن حالة الانسجام والمحبة في العائلة تنمي في نفس الإنسان الثقة والوداعة والاتزان وحسن التعامل مع الآخرين، بينما الأجواء العائلية المضطربة تنتج اهتزازاً في شخصية الإنسان، وتزرع في نفسه عقداً مختلفة.

رعاية الحقوق ضمن العائلة:

وهذه الصورة التي يقدمها حديث الكساء وما ينقله لنا التاريخ من سيرة أهل البيت إنما هي تجسيد لتعاليم الإسلام وآدابه في المحيط العائلي.

فالإنسان ضمن عائلته زوجاً أو زوجة أو ولداً أو والداً له وعليه حقوق وآداب متبادلة، لا ينال رضا ربه ولا تهنأ حياته العائلية إلا برعايتها والالتزام بها.

والغريب أن بعض الناس يرى نفسه ملزماً بحقوق الآخرين من خارج عائلته، ولكنه يتساهل ويتسيّب في تعاطيه مع عائلته القريبين منه فلا يحترم حقوقهم ويجيز لنفسه الاعتداء عليها، مع أن القرآن الكريم يشدد على التزام الحدود كثيراً في تناوله للعلاقات العائلية، ويعتبرها مصداقاً لحدود اللَّه تعالى التي لا يصح تجاوزها، حيث وردت كلمة (حدود اللَّه) في ثلاثة عشر مورداً في القرآن الحكيم، عشرة منها في مجال العلاقات العائلية، كما في سورة البقرة آية 299 وآية 230، وفي سورة النساء آية 13، وفي سورة المجادلة آية4 وسورة الطلاق آية1.

ونقرأ في أحاديث رسول اللَّه الكثير من النصوص التي تؤكد رعاية الحقوق الزوجية المتبادلة، فعنه : «من كان له امرأة تؤذيه لم يقبل اللَّه صلاتها ولا حسنة من عملها حتى تعينه وترضيه وان صامت الدهر.. وعلى الرجل مثل ذلك الوزر والعذاب إذا كان لها مؤذياً ظالماً»[3] .

وكأن الرسول يريد أن يقول للناس إن الصلاة والصوم هو تعامل مع الخالق ولكن اللَّه سبحانه وتعالى لا يقبل هذا التعامل معه، ما لم يكن تعاملك مع المخلوقين ضمن الحدود والموازين الشرعية المقررة له وأقرب الناس إلى الزوجة زوجها وكذا العكس.

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقر وهي مهمة في هذا الجانب، يقول الإمام: «لا شفيع للمرأة أنجح عند ربها من رضا زوجها»، ولما ماتت فاطمة قام عليها أمير المؤمنين وقال: «اللَّهم إني راضٍ عن ابنة نبيك»[4] .

ونستفيد من هذه الرواية إنه إذا كانت الزهراء تحتاج إلى رضى زوجها عنها وهي ابنة رسول اللَّه وسيدة نساء أهل الجنة فإن أية امرأة أخرى أحوج إلى ذلك.

إننا بحاجة إلى التأكيد على حقوق الزوجة أكثر من حقوق الزوج، ذلك لأن الزوج بطبعه يشعر بالقوة والتفوق والهيمنة على زوجته، من حيث إن له حق القوامة.. أما الزوجة فليست كذلك، من هنا يقول الرسول : «مازال جبرئيل يوصيني بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها»[5] .

ويضرب بعض الرجال عن كل هذه التوجيهات صفحاً، ويتجاوز على حقوق زوجته، ويكلفها بأكثر مما هو واجب عليها ويتعامل معها كما لو كانت أجيرة في بيته، فهي مسؤولة حتى عن خدمته هو شخصياً في أكله ولباسه ومسكنه، والواقع أن خدمة الزوجة لزوجها ليست واجباً إلزامياً عليها، إنما هو أمر عرفي، وهو مستحب شرعاً لا أكثر من ذلك.

والمرأة إذا قامت بخدمة زوجها فإنما هي محسنة و ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ فلا يجوز له أن ينهرها أو يضربها أو يهينها إذا قصرت في ذلك، لأنه ليس واجباً عليها أصلاً.

إن التعاليم الإسلامية تشجع على أن يخدم الرجل زوجته أيضاً لتكون الخدمة متبادلة كحالة تعاون، ففي رواية عن النبي : «إذا سقى الرجل امرأته الماء أُجر»[6] .

وفي حديث آخر: «إن الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى في امرأته»[7] . وهنالك الكثير من الروايات والأحاديث التي تشجع على خدمة الرجل لزوجته خصوصاً ولعائلته عموماً.

وفي ذلك يقول الرسول الأكرم : «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»، وحينما تسأل أم المؤمنين عائشة زوج الرسول عن طبيعة تعامل الرسول مع أهله تقول عنه : كان يخصف نعله ويخيط ثوبه ويعمل في بيته ما يعمل أحدكم في بيته، كان في مهنة أهله فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة»[8] .

ويقول أمير المؤمنين : «لا يكن أهلك أشقى الخلق بك»[9]  ، فبعض الناس يتطوع لخدمة الآخرين في المحافل العامة لكنه غير مستعد لخدمة أهله، وقد يخدم الضيوف في بيته لكنه يأبى عن تقديم الخدمة لعائلته.

لقد كانت حياة علي والزهراء مصداقاً واضحاً وبارزاً لتلك التعاليم والإرشادات التي تجعل من الحياة العائلية حياة سعيدة بلا حدود.

وها هو أمير المؤمنين يوضح احترامه ومراعاته لحقوق زوجه الزهراء في الكلمات التالية: «فو اللَّه ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها اللَّه عز وجل ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً لقد كنت أنظر إليها فتنكشف عنى الهموم والأحزان»[10] . فلا هو تجاوز ولا هي قصرت.

ومن جهتها هي أيضاً أكدت ذلك في وصيتها المعروفة له قبل وفاتها حيث قالت: «يابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني»، فيجيبها عليّ مباشرة «معاذ اللَّه أنت أعلم باللَّه وأبّر وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من اللَّه من أن أوبّخك بمخالفتي»[11] .

وفي مثل هذه المناسبة العظيمة وهي ذكرى ولادة الزهراء ، ينبغي لنا أن نتطلع إلى تلك الحياة العائلية السعيدة التي عاشها بيت فاطمة وأن نطالب أنفسنا بتحمل أدوارنا كاملة في ذلك، وأن لا يلقي كل طرف بالمسؤولية على الآخر، ويبرئ نفسه من التقصير.

وعلينا أن نعمل بإرشادات الإسلام في علاقاتنا العائلية ونقتدي بأهل البيت ليستجيب اللَّه دعاءنا حينما نقول ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ.

* كلمة الجمعة بتاريخ 20 جمادى الآخرة 1420هـ
[1]  يماني: محمد عبده، إنها فاطمة الزهراء ص15 الطبعة الأولى 1996م دار المنار – مؤسسة علوم القرآن، دمشق.
[2]  الريشهري: المحمدي، ميزان الحكمة ج4 ص287.
[3]  الحر العاملي: محمد بن الحسن، وسائل الشيعة ج20 ص165 حديث رقم 25315.
[4]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار، ج100، ص256.
[5]  المجلسي: محمد باقر، بحار الأنوار ج100 ص253.
[6]  الهندي: علي المتقي، كنز العمال ج16 ص275 حديث رقم 44435.
[7]  الكاشاني: المولى محسن، المحجة البيضاء ج3 ص70.
[8]  الترمذي: أوصاف النبي، دار الجيل ـ بيروت، تحقيق وتعليق: سميح عباس ص276.
[9]  الموسوي: الشريف الرضي، نهج البلاغة، كتاب 31.
[10]  القزويني: محمد كاظم، فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد، الطبعة الأولى 1991م مؤسسة النور للمطبوعات ـ بيروت ص142.
[11]  المصدر السابق ص425.