عاشوراء حضور عالمي متألق

 

يقول تعالى: ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170].

حينما يسود حال في أيّ مجتمع من المجتمعات البشرية، فإنّ الناس عادة ما يخضعون لذلك الحال السّائد، ويتكيّفون معه، وإن كان خطأ أو فاسدًا. سواء أكان ذلك الحال يتمثل في أفكار أو يتجسّد في ممارسات وسلوك.
وعادة ما تنتج ثقافة تنظيرية لتبرير ذلك الحال الخطأ، بل وتمجيده، وتصبح مخالفته أو نقده هو الخطأ.

وهنا نستذكر الحديث النبوي: «كَيفَ بِكُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ؟ فَقِيلَ لَهُ: يا رَسُولَ اللَّهِ وَيكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَشَرٌّ مِنْ ذَلِكَ، كَيفَ بِكُمْ إِذَا رَأَيتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً؟»[1] .

الإصلاح مهمة الواعين الصادقين

 لكنّ الواعين الصادقين يجدون أنفسهم معنيين بهداية الناس وإرشادهم، ليدركوا خطأ ما يجري ويبينوا لهم طريق الصواب.

ومن الطبيعي ألّا تكون هناك استجابة سريعة من الناس لإرشاد المصلحين؛ نظرًا لترسيخ الواقع في نفوسهم، ولوجود مراكز قوى مستفيدة من واقع الخطأ والفساد، تتصدّى لمواجهة المصلحين.

وهنا قد يتسلّل اليأس والشعور بالضعف والعجز إلى قلوب المصلحين، لكنّ الله تعالى يرفع معنويات المصلحين، ويمدّهم بمشاعر الثبات وروح الاستقامة، عبر تأكيده على أثر الإصلاح في المجتمعات الإنسانية، فهي لا تضيع وإنما تتراكم وتحتاج إلى مزيد من الجهد والوقت.

وفي هذا السياق تأتي الآية الكريمة ﴿إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170].

وآيات أخرى كقوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود: 115].

وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف: 90].

عدم استعجال النتائج

هذه الآيات يجب أن تكون حاضرة في ذهن ونفس كلّ من يسعى للخير والإصلاح في مجتمعه. وعليه ألّا يستعجل النتائج، وأن يعرف أنه يزرع بذرة ويضع لبنة ليأتي من يدعم جهوده ويستكمل مسيرته.

وحين نقرأ التاريخ نجد أنّ إصلاح المجتمعات لا يتحقق في يوم أو يومين، سواء أكان إصلاحًا فكريًّا أو عمليًّا.

فالذين طرحوا نظريات في علوم الطبيعة تخالف السّائد في عصورهم، تكلّفوا تضحيات وواجهوا صعوبات، إلى أن قبلت نظرياتهم في عصورهم أو ما بعد عصورهم.

وكذلك الحال في رواد الإصلاح الاجتماعي، فكم من مبادرة أو مشروع يوأد في بداية طرحه، ثم يجد قبولًا واستجابة.

ومن أكبر الشواهد والأمثلة التي يقدّمها لنا التاريخ نهضة الإمام الحسين . فقد دفع الحسين حياته ثمنًا لمشروعه الإصلاحي للأمة، وتحمّلت أسرته أشدّ العناء في الأسر والسّبي.

لكنّ الأمة فيما بعد أدركت أحقية المسار الحسيني، فتلاحقت الثورات والحركات والانتفاضات تحمل شعار الثأر للحسين.

ثورة الحسين أيقونة خالدة

ثم تحولت نهضته إلى أيقونة خالدة تزداد مع الزمن تألقًا وإشراقًا.

ورأينا في هذا العام كيف اتسع نطاق إحياء مناسبة ذكرى الحسين . إنّ أحد التقارير التي أصدرتها جهة متابعة لإحياء مراسم عاشوراء في خمس قارات هذا العام، يقول:

تم إقامة 314 ألف مجلس عزاء في القارات الخمس.

شارك في إحياء المجالس أكثر من 267 مليون شخص.

أكثر من 26070 موكب، 21630 هيئة.

شارك العديد من رؤساء الدول، والوزراء في مجالس العزاء لهذه العام.

مشاركة مميزة للعديد من علماء وشخصيات المذاهب الاسلامية الأخرى، في أكثر من دولة. وكذلك من بعض المسيحيين والكنائس المسيحية.

تمت تغطية مراسم المجالس في 67 محطة فضائية.

تمت إقامة مجالس العزاء بسبعٍ وعشرين لغة عبر العالم.

تجاوز عدد زوار الحسين، في كربلاء خلال العشرة أيام 11 مليون نسمة.

وكلّ هذه فعاليات أهلية.

عاشوراء المنطقة نجاح باهر

في بلادنا تم إحياء هذه المراسم بحيوية واطمئنان وإقبال كبير.

وقد انعكست هذه المراسم على الإعلام الرسمي والوطني، وهي لفتة إيجابية مهمة علينا أن نحتفي بها، فقد بثت قناة “الإخبارية” تغطية موسّعة، تناولت ما يقوم به المواطنون الشيعة من أداء أنشطة وفعاليات دينية خاصة بهذه الذكرى.

ورصدت قناة العربية في إحدى نشراتها إحياء المراسم في محافظة القطيف.

كما قامت شركة (ثمانية) الإعلامية السعودية بعمل وثاقي بعنوان: عاشوراء، غطّى بعض الشعائر في المحافظة، وكان ضمنه حديث شيّق رصين لأحد شباب المنطقة حول المناسبة.

وكذلك قناة الجزيرة، وموقع سي إن إن بالعربية.

نشكر هذه الجهات ونتمنّى اتساع هذا الحسّ الإنساني الوطني، الذي يعزّز الوحدة الوطنية، ويكرّس الانفتاح بين أطياف المواطنين.

ونشكر كلّ الجهود التي بذلت من الخطباء والشعراء وإدارات المجالس والمواكب والمضايف والإعلام الأهلي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والمنفقين والمساهمين، ونشيد بجهود الأجهزة الأمنية حيث جرت فعاليات المناسبة في أمن وأمان وبانسيابيه تامة وتعاون بين المواطنين وأجهزة الدولة.

 

خطبة الجمعة 14 محرم 1444هـ الموافق 12 أغسطس 2022م.

[1]  تحف العقول، ص49.