القيم الإنسانية في حروب النبي (ص)

 

قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‎﴿٣٩﴾‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[1] .

السلام شعار الإسلام، وقد جعل التحية الرسمية لأبنائه قول (السلام عليكم).

والسلم هو نهج العلاقة الذي يجب أن يكون بين بني البشر، أفرادًا وجماعات وأمماً، يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ[2] .

وقد دعا النبي الناس إلى دين الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولم يمارس عنفًا، ولم تصدر منه إساءة، لكن المشركين في مكة واجهوه وأتباعه بصنوف الأذى، من اتهام له بالكذب والسحر والجنون، والتنكيل بمن آمن به واتبعه حتى اضطر بعضهم للهجرة إلى الحبشة، ثم فرضوا حصارًا ظالمًا على النبي وأسرته من بني هاشم في شعب أبي طالب، وتآمروا أخيرًا على قتل رسول الله على فراشه، حيث أمره الله بالهجرة إلى المدينة. بينما تواصل إيذاؤهم للمسلمين في مكة وكانوا يمنعونهم عن الهجرة، ويصادرون أموال المهاجرين.

وكان رسول الله يواجه كلّ هذا الأذى والعدوان بالصبر والتحمّل، ويأمر المسلمين بذلك، وحين يستأذنونه بالدفاع عن أنفسهم ورد الظلم والعدوان، يقول لهم: «اصْبِرُوا، فَإنِّي لَمْ أُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ»[3] .

حتى نزلت هذه الآية الكريمة، ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ‎﴿٣٩﴾‏ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[4] ، لتعطي المسلمين إشارة المواجهة لظلم المشركين وعدوانهم، وهي تحمل الإذن بالدفاع، وتبيّن السبب والفلسفة لتشريع الجهاد،  وتقدّم لهم الأمل في النصر.

معركة بدر الكبرى

فكانت معركة بدر الكبرى أولى معارك الإسلام الحاسمة، في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ويوافق ذلك السابع عشر من شهر مارس سنة 624م.

سمّيت هذه المعركة باسم المنطقة التي وقع فيها القتال، وهي جنوب غرب المدينة المنورة على مسافة 154 كم تقريبًا.

وكانت البداية أنّ رسول الله خرج لتعقّب قافلة تجارية لقريش قادمة من الشام بقيادة أبي سُفيان، ردعًا لممارسات قريش الظالمة ضدّ المسلمين. لكنّ القافلة أفلتت، وغضبت قريش فجهّزت جيشًا للزحف على المدينة، فكانت المواجهة في بدر.

كان المسلمون محدودي العدد والعدة قياسًا للمشركين، فكان عددهم ثلاث مئة وثلاثة عشر، وقيل بأنّهم ثلاث مئة وتسعة عشر رجلاً.

وكان للمسلمين فرسان، و79 من الإبل يعتقّب كلّ واحدة منها الرجلان والثلاثة والأربعة. وكان رسول الله مع علي ومَرْثَد بن أبي مَرْثَد يعتقّبون جملًا واحدًا.

بينما كان تعدادُ جيش قريش ألفَ رجلٍ معهم أربع مئة فرس.

لكنّ المسلمين حققوا النصر بمعنوياتهم الرفيعة وبصدقهم وتضحياتهم ودعم الله تعالى لهم، يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[5] .

وتوالت بعد غزوة بدر المعارك والغزوات مع المشركين واليهود ومناوئي الدولة الإسلامية الناشئة.

ويهمنا أن نشير إلى أنّ هذه المعارك والغزوات كانت تحكمها القيم الإنسانية والأخلاق الإسلامية، فلم تكن حروب إبادة وانتقام، ولا تفنّنًا في ممارسة العنف والقتل. لذلك لم يتجاوز عدد القتلى في تلك الحروب ألفًا وبضعة أشخاص، حسب تقديرات الباحثين في التاريخ الإسلامي، وبعضهم رفع العدد إلى ألف وأربع مئة من الطرفين.

وحين نتأمل موارد تجسيد هذه القيم الإنسانية في السيرة النبوية، نجد أنّها تنتظم في ثلاث مجموعات، الأولى منها ترتبط بما قبل المعركة والحرب، والثانية تتعلق بطريقة إدارة المعركة، والثالثة في نهج التعامل مع العدو بعد الحرب.

قبل المعركة

أولًا: كانت هذه الحروب في مجملها دفاعية، فلم يقاتل المسلمون من لم يعتدِ عليهم، ويقرّر القرآن الكريم هذا المبدأ بقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[6] .

وكان النبي يوصي أصحابه في المعارك بقوله: «لاَ تَبْدَؤوهُمْ بِالْقِتَالِ»[7] .

ثانياً: كان يبذل جهده لتلافي الدخول في أيّ معركة ما وجد إلى ذلك سبيلاً، ويقبل أيّ مبادرة للصلح والسلام، كما هو أمر القرآن الكريم ﴿وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[8] .

ومن أجل حقن الدماء كان يقول قبل صلح الحديبية: «والّذي نَفْسِي بيَدِهِ، لا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إلَّا أعْطَيْتُهُمْ إيَّاهَا»[9] .

وعندما وصل إلى تبوك وعلم أن الرّوم قد انسحبوا منها إلى داخل بلادهم، آثر الانسحاب وكان بإمكانه مطاردتهم، وإيقاع الخسائر في صفوفهم، لكنّه تلافياً للدخول في الحرب تركهم ورجع إلى المدينة.

ثالثاً: كان رسول الله يتجنّب كلّ ما قد يؤدي إلى الحرب كقتل الرسل: فقد بعث مسيلمة الكذاب رجلين أتيا النبي ، فسألهما : ما تقولانِ أنتما؟ قالا: نقولُ كما قال، قال : «أمَا واللهِ لولا أنَّ الرُّسلَ لا تُقتَلُ لضربتُ أعناقَكُما»[10] ، وفي رواية أخرى: «لَوْ كُنْتُ قَاتِلًا رَسُولًا لَقَتَلْتُكُمَا»[11] .

إدارة المعركة

رابعًا: نهى عن استخدام وسائل الإبادة والفتك بالناس. كما ورد عن الامام علي: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ص أَنْ يُلْقَى السَّمُّ فِي بِلَادِ الْمُشْرِكِينَ»[12] .

خامساً: لم يستخدم رسول الله أسلوب المباغتة ليلًا، بل كان يواجه العدو نهارًا، كما ورد عن الإمام الصادق : «مَا بَيَّتَ رَسُولُ اللَّهِ عَدُوّاً قَطُّ»[13] .

وعن أنس: أنَّ النبيَّ كانَ إذَا غَزَا بنَا قَوْمًا، لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بنَا حتَّى يُصْبِحَ[14] .

سادسًا: كان يؤكد على التزام القيم والأخلاق في الحروب، فقد ورد عن الإمام الصادق : «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً دَعَا بِأَمِيرِهَا فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ وَأَجْلَسَ أَصْحَابَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَبِاللَّهِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ لَا تَغْدِرُوا وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا وَلَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَلَا صَبِيّاً وَلَا امْرَأَةً وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَلِهِمْ نَظَرَ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ جَارٌ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ‌ فَإِذَا سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ تَبِعَكُمْ فَأَخُوكُمْ فِي دِينِكُمْ وَإِنْ أَبَى فَاسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِ وَأَبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ»[15] .

فقد بعث رجلًا لخالد بن الوليد في إحدى الغزوات وقال له: «الْحَقْ خَالِدًا، فَقُلْ لَهُ: «لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا عَسِيفًا»، وَالْعَسِيفُ: هُوَ الأَجِيرُ.

ما بعد الحرب

سابعًا: منع رسول الله قتل الأسرى. وكان يأخذ الفدية مالاً أو غيره أو يمنّ بإطلاقهم يقول تعالى: ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا[16] .

ففي واقعة بدر كان عدد الأسرى من المشركين يقارب السبعين شخصًا، فأمر أن يأخذوا من غنيهم الفداء أربعة آلاف درهم، وثلاثة آلاف، وألفين، وألف، كلٌّ حسب قدرته ويساره، وقد جعل فداء بعضهم من الذين يعرفون القراءة والكتابة، تعليم عشرة من صبيان المسلمين[17] ، وقد منّ على بعضهم بغير فداء[18] ، وأثناء الأسر كان يؤكد على الإحسان للأسرى، كما ورد عنه : «استَوْصُوا بالأُسَارَى خيرًا»[19] .

ولما فتح رسول الله حصن ابن أبي الحقيق اليهودي، وكان هناك سبي فمرّ بلال بامرأتين من اليهود على موقع جثث القتلى، فوبّخه رسول الله قائلاً: «أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلَالُ، حِينَ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا؟»[20] .

ثامنًا: كان يرفض التمثيل وتشويه أجسام الأعداء، ورد عنه : «لاَ تَغُلُّوا وَلاَ تُمَثِّلُوا وَلاَ تَغْدِرُوا»[21] .

وحينما اقترح بعض المسلمين عليه أن ينزع ثنيتي سهيل بن عمرو من خطباء قريش، وكان من أسرى بدر، وذلك لإساءته للنبي قال : «لا أُمثِّلُ به؛ فيُمثِّلَ اللهُ بي وإنْ كنتُ نبيًّا»[22] .وعن الإمام علي قال: سمعت رسول الله يقول: «إِيَّاكُمْ وَالْمُثْلَةَ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ»[23] .

ولم يأخذ مالاً على الجثث[24]  وكان يعطي جثث القتلى لأصحابهم أو يدفنهم ولا يأخذ مالًا مقابل الجثث.

ففي يوم الخندق عرضوا على النبي عشرة آلاف في مقابل جثة عمرو بن عبدودّ العامري. فقال : «هُوَ لَكُمْ، لَا نَأْكُلُ ثَمَنَ الْمَوْتَى»[25] .

للمشاهدة:

https://www.youtube.com/watch?v=HSPF7lHV9Ys

للاستماع:

http://saffar.me/?act=av&action=view&id=1466

خطبة الجمعة 18 رمضان 1442هـ الموافق 30 أبريل 2021م.

[1]  سورة الحج، الآيات: 39-40.
[2]  سورة البقرة، الآية: 208.
[3]  مجمع البيان، ج7، ص156، وتفسير البغوي، ج3، ص343.
[4]  سورة الحج، الآيات: 39-40.
[5]  سورة آل عمران، الآية: 126.
[6]  سورة البقرة، الآية: 190.
[7]  بحار الأنوار، ج19، ص251.
[8]  سورة الأنفال، الآية: 61.
[9]  البخاري: ح2700.
[10]  الألباني: صحيح أبي داوود، 2761.
[11]  أحمد بن حنبل، ح 3761.
[12]  الكافي، ج5، ص28، ح2.
[13]  الكافي، ج5، ص28، ح3
[14]  البخاري، ح2784
[15]  الكافي، ج5، ص30، ح9.
[16]  سورة محمد، الآية: 4.
[17]  الطبقات الكبرى، ج2، ص16.
[18]  الدكتور محمد عبده يماني، بدر الكبرى، ص341.
[19]  الذهبي: تاريخ الإسلام، ج2، ص119.
[20]  الطبري 3-13/ ابن هشام 3-350
[21]  تهذيب الأحكام، ج6، ص138.
[22]  البداية والنهاية، ج3، ص311.
[23]  نهج البلاغة، من وصية له للحسنين ، رقم 47.
[24]  مسند ابن حنبل، ح2230
[25]  البيهقي: دلائل النبوة، ج3، ص435.