ما بعد التطرف الديني: أسئلة العقلانية والتسامح عند الشيخ حسن الصفار

مكتب الشيخ حسن الصفار بقلم: السيد عبد الحميد الحسني

مقدمة:

هذا الكتاب لبنة من لبنات مشروع إصلاحي تجديدي متكامل ومتواصل بإتقان وإحسان، راصدا كل معالم الوعي الديني السليم والنقد البناء، والتنمية الاجتماعية والمناهج الفكرية والعلمية في فهم القضايا الدينية، حيث نستشف من مقدمة الكتاب ما يعلن عنه المفكر الإسلامي الشيخ حسن بن موسى الصفار، محاولا توجيه فكرة الكتاب العامة ضمن السياق المنهجي لتفكيك الظواهر الاجتماعية وتحليل جذورها ومقاربة حلول لها..

العقلانية و التسامح (نقد جذور التطرف الديني)، كتاب يندرج ضمن حقل الدراسات النقدية السوسيوثقافية في الفكر الإسلامي المعاصر، يقع في ٢٤٥ صفحة من القطع المتوسط ، عن دار أطياف للنشر والتوزيع بالمملكة العربية السعودية الطبعة الأولى سنة ١٤٣٩ ه- ٢٠١٨م، ويعتبر مقاربة وصفية نقدية جديدة حول ماهية التسامح على ضوء الرؤية العقلانية للواقع والمساءلة النقدية لأبعاد الظواهرالسوسيوثقافية ذات العلاقة بالتفكير الديني وتأثيراتها على الوعي والالتزام الدينيين للأفراد والمجتمعات، لأن الشيخ الصفار سبق له أن بحث وناقش عنوان التسامح في أغلب إشتغالاته الفكرية و مؤلفاته التجديدية و محاضراته الثقافية، إذ  لا تكاد تخلو محاضرة أو مقالة لسماحته من الإشارة أو التنبيه لقيمة التسامح و متوالياتها ، كما أنه يعكس من خلال هذا التأليف ثنائية جدلية متجددة أمام تيارات الفكر الإسلامي تؤصل مدى ارتباط القيم الدينية بمفاعل العقلانية ضمن المنطق الإسلامي العام، و أهمية الكتاب تكمن في كون المفكر الإسلامي الشيخ حسن الصفار شاهد و مؤثر في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر سواءا بمنجزه الفكري أو نشاطه الثقافي عبر العالم الاسلامي و إسهامات الاجتماعية في مجتمعه الصغير و وطنه الكبير، مما يستدعي قراءة حصيفة لمضامين الكتاب الذي هي في الأصل محاضرات عاشورائية لسنة ١٤٣٩ه تعكس تفاعل إستراتيجي مع جواهر الحركة الإصلاحية للإمام الحسين الشهيد عليه السلام، و ضرورة تطوير الخطاب الديني بما يتناسب و تحديات الراهن و رهاناته.

مقدمة الكتاب اختزلت جميع مسارات الفصول و افكارها الأساسية لتشكل صورة عامة حول الكتاب تثير نهم المعرفة لدى القراء و الباحثين و ذوي الاهتمام بالشأن الثقافي الإسلامي عموما و بظاهرة التطرف الديني في أبعادها الفكرية الثقافية و ما هنالك من تمثلات لها في ابعاد الحياة الاخرى وتمهيد لتفكيك بنية التطرف فكريا و نفسيا مهدد ثقافي- إجتماعي عبر المجال العربي و الإسلامي، مع بعث اضاءات ومقاربات لتجديد الفهم الديني على ضوء مرجعية العقل والدعوة لإعتماد العقلانية و التسامح نهجا في الاختلاف و التفاعل و العلاقات الإجتماعية..

في حين جاء الفصل الأول من الكتاب ليطرح رؤية نقدية حول الخطاب الديني، حيث استعان في ذلك بمطارحات تجمع بين علم الاجتماع الثقافي وفلسفة التشريع الإسلامي، وفق قراءة تحليلية للمفاهيم والواقع والآفاق والآداب والأخلاق والمقاصد، تنظر قيميا لكل حقل منهجه ونسقه بموضوعية علمية في دراسة ظواهر نفسو-اجتماعية تتصل ماهية الخطاب الديني وأهدافه وتأثيراته على المجتمع ضمن معادلة ضوابط مسؤولية الخطاب ضمن التصور الإسلامي.

 وكان الفصل الثاني وليد هاجس شعبوية الخطاب الديني غير المسؤول، حيث سعى فيه الكاتب إلى عرض للجهد العلمي في مقاربة ظاهرة التطرف الديني، وما شابها من نزعات عبر التاريخ. حيث استعرض التطرف الديني في التاريخ الاسلامي و في الدين اليهودي و المسيحية المتطرفة و نموذج الهند بتنوع دياناتها، ليعرج على أعراض التطرف التي من خلالها يمكن تشخيص هذا المرض الخطير على الأفراد أو الجماعات والمجتمعات، مستكملا منهجه التحليلي النقدي بتكوين رؤية وصفية للعوامل والأسباب المركزية في تشكل ظاهرة التطرف الديني و التي اختصرها في أربعة أسباب جوانية و عوامل خارجية، مقترحا منهج التحصين الإيماني والأخلاقي للشباب من خلال الاستثمار الأمثل للمواسم والمناسبات الدينية مثل الموسم العاشورائي عبر التبشير بنهج الإعتدال و التسامح و التعايش السلمي.

هذا الفصل من الكتاب يعكس مدى اهتمام الشيخ حسن الصفار بالراهن الإسلامي قدر تفكيره في مواضيع العقلانية والتسامح ونبذ التطرف وأسبابه، داعيا لصناعة وعي علمي  بالدين و مقتضياته، وهذا ديدنه في إتجاه نقد الظواهر و السلوكيات بنقد تشخيص الأسباب و نقد المناهج التي تقارب تلك الظواهر الخطيرة و تستقطب الشباب نحوها، مستهدفا بنقده عدم استفحال ظاهرة التطرف الديني و متوالياتها الخطيرة من  خلال رصد إشكاليات و مشكلات العلاقة بين الإنسان و الدين، و هذه هي الفكرة الرئيسية في  جل الأعمال الفكرية و الثقافية النقدية لدى الشيخ الصفار، و التي تقارب الفوارق الجوهرية بين منظومة الدين و المطاردات التي يعتمدها الغلاة  والمتطرفون في مقارباتهم ذات الجذور النفسية و الثقافية و العوامل الخارجية والدوافع المصلحية في البيئات العربية الإسلامية التي تمثلت الأحادية الفكرية و ملكية الحقيقة المطلقة و الإرهاب الفكري و التسقيط الممنهج الآخر و المختلف وفق منظور أصحابها.

خصص الشيخ الصفار الفصل الثالث لبحث عام حول مفهوم التكفير واهم اتجاهاته في التراث الديني لبناء معرفة شاملة و دقيقة حول التطرف الديني من خلال تفكيك عنوان التكفير، لينتقل في الفصل الرابع بأنموذج تقريبي متداول لدى كل دعاة التطرف ونتيجة آلية لمظاهر التكفير والمتمثل في احتكار الجنة، عبر تسليط الضوء على مفاعيل احتكار الجنة من خلال مناقشة حديث الفرقة الناجية الذي عزز الفرقة و التكفير و التطرف بين الطوائف الإسلامية والذي يعتمد امتداد طوليا في مسارات الأديان بحسب رواياته المتعددة، للوقوف على أهمية تعزيز النزعة الانسانية والوحدوية بين المسلمين عبر نهج التسامح والتقارب.

في الفصل الخامس يواجه الشيخ الصفار وبنهج تنويري فريد القارئ بحقائق التاريخ الراقية والنماذج الإيجابية للتواصل بين المسلمين على الرغم من اختلافاتهم المذهبية والعلمية وما هنالك من تنوع وتعدد، كما يقارب لوعي ثقافة التواصل عبر قراءة لتجارب الآخر المسيحي وتواصل مذاهبه رغم الاختلافات العميقة بينها، ثم يأخذنا إلى خلفيات الممانعة وعدم التواصل بين الاطياف الإسلامية، مؤكدا على دور الجمهور في تمكين ثقافة التواصل والتقارب بدلا عن سياسات التنافر والتطرف والتباعد..العقلانية والتسامح نقد جذور التطرف الديني

ويقف الكاتب في الفصل السادس من الكتاب عند عتبات حدي الالتزام الديني المرونة والتشدد عبر دراسة بواعث ظاهرة التشدد الديني ومظاهره عقيديا وعباديا وفي الاحكام وتجاه الناس من خلال وعي التشريع الإلهي ومقاصده وتفنيد كل مسوغات التساهل والتمييع بخصوص الإلتزام الديني من جهة وتبيان حقيقة المرونة والواقعية في هذا التشريع ونهج الاعتدال والتسامح المنصوص عليه إسلاميا لكنه مغيب في الخطاب الديني كمبدأ وسمة رئيسية رغم تنويه الكتاب العظيم والسنة الشريفة..

وتبدو متانة الكتاب في الفصلين السابع و الثامن ، من قدرة صاحبه على استدعاء المواضيع المختلفة التي تؤسس لنهج  العقلانية و التسامح في قبال خطورة التطرف الديني، دون طرحها بأسلوب إشهاري و إنما عبر عرض المبدأ الإسلامي الأصيل حتى يطمئن القارئ و يكتشف الحقائق عبر تأصيل الإختلاف فهما و تفكيرا و إدارة، ثم يأتي فضح زيف ادعاءات أصحاب نهج التشدد و التطرف دينيا عبر السعي إلى تركيز الوعي بمحاولات تهميش العقل في الحالة الدينية و استغلال المشاعر الدينية و تزييف الوعي عبر خدش التلازم بين الدين و العقل، وهذا أيضا يعكس جرأة الشيخ الصفار النقدية و تحمله لمسؤولية الخطاب الديني المثمر للوعي و الحكمة و الموقف و التطلع ذو النزعة الانسانية و الحضارية  وفق الرؤية الإسلامية السليمة، وهذا سر تميز خطابه، وعمق نظره وقوة استشرافه للأمور و المشاريع كلها..

كما تبدو أهمّ رهانات الكتاب الإصلاحية  في الفصل التاسع  بحثا عن الحقيقة الدينية في التراث الإسلامي وعلاقتها بالواقع أو الراهن، فتصطدم  رهانات التسلط والاحتكار، بحثا عن الشرعية الدينية في سوق الاختلاف المذهبي بحقائق إنسانية حضارية، حيث يحدد الشيخ الصفار المدخل عبر الطريق الشرعي في فهم واقعة الطف الكبرى، باعتبارها ذروة مركزية لوحدة الأمة، تؤسس لخيار جوهري استراتيجي في مسار عقلانية الإلتزام الديني، كما أن تداخل الجوانب العقائدية والإيديولوجية حولها، قد يولد التطرف و التشدد و التكفير في خط الصدع بين المذاهب، مما يتطلب بديلا شرعيا عن الصدام والتقاطع يتمثل في التسامح، الذي اصطبغت به كل سير النبي الأكرم والأئمة الأطهار ، ليختم  المؤلف سماحة الشيخ حسن بن موسى الصفار هاجسه الأول والأخير هو استفحال العنف الحقيقي والرمزي وانغلاق الأطياف الإسلامية على بعضها البعض، محذرا الشباب المسلم من الانزلاق في متاهات العنف و التطرف الديني، مرشدا إياهم للتفكر في نهج الإمام الحسين   وثورته الإنسانية الخالدة التي ألهمت عظماء عبر التاريخ بأن اللاعنف نهج التقدم والقوة و النهضة ويمكنهم العودة لآثار أعلام الأمة من العلماء و الفقهاء الذين أصلوا وفصلوا وحذروا من مهلكات العنف ومشتقاته من تطرف وتشدد وتكفير وإرهاب وأكدوا على العودة إلى علماء بلدانهم..

وقد حاول الشيخ الصفار تطبيق المنهج التحليلي التاريخي، فرصد أهمّ الشواهد عن الإلتزام الديني القيمي التي شهدتها النهضة الحسينية من الخطاب الحسيني العظيم والمواقف البطولية لأصحابه وإخوته وأولاده، ترسيخا للقيم الدينية في الفكر والعمل والتطلع سعيا إلى تركيز تلك الشرعيّة على أرضية الواقع الإسلامي، نحو تحصيل رأس مال شبابي يتسم بالعقلانية والتسامح واللاعنف.

عطفا على ما تقدم، يعتبر هذا الكتاب لسماحة الشيخ حسن الصفار إضافة نوعية للمكتبة الفكرية و العلمية الإسلامية لبحثه إحدى الظواهر الخطيرة و المهددة للأمن الإجتماعي و الوعي الثقافي للأمة الإسلامية بجميع أطيافها، حيث يشكل قراءة جديدة جريئة و مسؤولة لا في التعامل مع التراث الإسلامي فقط وإنّما في التعامل مع الواقع و مشكلاته التي صارت تتجلبب بالمقدّس، ففي الكتاب وصفة علاجية مبسطة  لداء التطرف و اجتثات لجذوره بالتي هي أحسن، كتاب يهدف للعبور بقوة العقلانية الإسلامية نحو فعل التسامح و التواصل و التقارب، دون أن يشعرك بوجود فصل بين المستويين، حيث يتقن الكاتب كعادته بين استدعاء الأفكار الحية و الشواهد المهمة و النماذج الخلاقة ؛ وبين الحفر في طبقات التخلف و الجمود و الرجعية و الاستبداد في الواقع، كما ان الكتاب يختزن مراجع ثقافية و أبعاد معرفية، ونظريات علمية من شتى المجالات مما يعكس فن الانفتاح و التعارف و التواصل في منهجية الكاتب و خطابه الثقافي الراقي.

يبقى أن يجد هذا الكتاب طريقه إلى الترجمة للغات أخرى ليعكس الخطاب الإسلامي الحقيقي لدى الآخر المسلم و غير المسلم و يكون مادة ثقافية مهمة في حوار الثقافات، كما نأمل من الأكاديميين والباحثين اعتماد كمرجع علمي غني بالمطارحات والرؤى الناهضة بالوعي والتقعيد القانوني لتجريم العنف بشتى تمثلاته خاصة التطرف الديني والتشدد اللذان يفضيان للتكفير وما هنالك من إنحرافات ثقافية واجتماعية بغطاء ديني، كما نأمل أن تناقش محتويات الكتاب في ندوات للتوسع أكثر في المحاور والآفاق، شاكرًا العلامة المفكر الإسلامي الشيخ الدكتور حسن بن موسى الصفار على نتاجه الفكري الملهم ونشاطه الثقافي الاجتماعي العام.

 

اسم الكتاب: العقلانية والتسامح.. نقد جذور التطرف الديني

اسم المؤلف: حسن الصفار

عدد الصفحات: 245

سنة النشر: 2018

دار النشر: مؤسسة الانتشار العربي

غلاف الكتاب: غلاف ورقي

 

كاتب من المغرب