التحدي الكبير

 

 

أحد عشر شابًا، بحقيبة ظهر تحوي القليل من الأطعمة، وقصاصات خريطة وبوصلة، عليهم جميعًا منفردين، البدء في رحلة ينطلق كل فرد منهم من منطقة نائية وصولا لمنطقة جبلية، والفائز من يصلها أولا.

رحلة مجهولة العقبات في مسارها. عليك أن تتحمل وتبتكر أفضل وأسرع الطرق؛ للوصول لقمة الجبل، مستعينًا بقوة الصبر والتحمل، وتجاوز عقبات الطريق غير المتوقعة.

تدور هذه الأحداث ضمن برنامج تلفازي استمتع بمشاهدته، عبر مراقبة اللحظات التي يعيشها المتنافسون الذين يقع أغلبهم في اليأس والتعب، وينسحب أكثرهم في منتصف الطريق؛ لكن كم تذهلني الأفكار التي يكافح بها من تبقى منهم! إذ يبتكرون حلولا إبداعية تصل بهم للقمة والنصر.

في المقابل وفي واقع الحياة هناك تنافس مقارب الشبه لهذا البرنامج والمتنافسون فيه ليسوا أفرادا بل مدارس فكرية ودينية، ومن بينهم مدرسة أهل البيت  .

الفكرة السابقة تناولها الشيخ حسن الصفار في محاضرة قيمة بعنوان «إحياء عاشوراء وتطورات الحياة» احتوت على تلك الجزئيات انطلاقًا من بدء التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا.

أسلوب الشيخ الصفار المبسط سلط الضوء على المدارس الفكرية المختلفة في عالمنا، ومنهجية الوسائل التي تمكنها من حماية نفسها في مواجهة الضغوط التي تواجه هويتها. حيث فشلت الكثير من المدارس، وانسحبت أخرى وتراجعت؛ إثر هذه الضغوط، بل بعضها اندثر ولم يبقى لها أثر.

بأسلوب شيق استعرض الشيخ الصفار تاريخ مدرستين فكريتين مميزتين هما:

- «مدرسة أهل الحديث» القائمة على الالتزام بالنص وتعتبر الصفات الحسنة والقبيحة مسيرة من الشرع وعقلنا ناقص في معرفتنا بها.

- «المدرسة المعتزلة» التي ترى العدل في ذاته حسن، والظلم في ذاته قبيح؛ لذلك الشرع يرفضه والعقل يستطيع إدراك ذلك.

قد تكون المسميات جديدة على بعض المستمعين أو القراء، لكن الشيخ الصفار وبإيجاز بسيط تحدث عن تاريخ المدرسة المعتزلة التي لمع نجمها في العهد العباسي على يد علماء أفاضل مبدعين في القدرة على المناظرة والجدل، أقوياء في الناحية العلمية، لكن تقلص ذكرهم وتراثهم، وتلاشى تاريخهم؛ والسبب هو أنهم لم يستطيعوا مواجهة الضغوط المحيطة بهم.

وهذا ينطبق أيضا على «مدرسة الخوارج» التي ظهرت في عهد أمير المؤمنين، حيث كانوا أهل الفصاحة في الكلام والخطابة، أبطال في المعارك، يمتازون بمظاهر العبادة والدين... لكن أين هم الآن؟؟

من هنا يفتح الشيخ الصفار الباب على المدرسة التي نجحت في مواصلة الطريق والاستمرار والتقدم؛ رغم ما واجهته من السلطات الأموية والعباسية وأعداءها المستمرين ليومنا هذا.

المدرسة التي حصل تلامذتها: الشافعي، والحنبلي، والمالكي على حق بإبراز مذاهبهم في حين استنكرت السلطات أن يقام لها مذهب باسمها.

نحن عندما نتحدث عن القيادة في خط الإسلام الأصيل فإننا نتحدث بالتأكيد عن «مدرسة أهل البيت» التي رغم كل الصعاب شقت طريقها، واتسعت وتبلورت بالحكمة العقلانية، البعيدة عن التصادم مع الأعداء، وبالتقية التي تكبح الاندفاع متسلحة ببرامج إبداعية لأتباعها؛ لتسير هذه المدرسة بقوه وثبات.

وفي ختام محاضرته طرح الشيخ الصفار نموذجا لبرنامج إبداعي من مدرسة أهل البيت ألا وهو «إحياء عاشوراء» موضحًا أهداف عاشوراء والعبرة من إحيائها وهو كالتالي:

- تأكيد الولاء والحزن لمصائب أهل البيت وهذا ما تؤكده الروايات الموضحة لأجر الدمعة على أهل البيت.

- استحضار فكر أهل البيت في برامج الإحياء «رحم الله من أحيا أمرنا».

- الاستعداد للتضحية والفداء باختلاف أنواعها وأزمانها.

- تعليم الناس الصبر والتحمل للضغوط المضادة لهم.

- تقوية التماسك الداخلي، الذي نراه في ترابط ومحبة الناس في أيام عاشوراء.

إن أيام عاشوراء ثمينة الساعات، راقية الفكر، هي ليست أيام حزن مؤقت، إن عاشوراء تحمل الكثير من الحقيقة التي تطرح من منابر يرتقيها علماء أفاضل، هم حصيلة حصاد ما زرعه علماء سابقون لهم.

إن مدرسة أهل البيت باقية بقوتها بوجود قامات كالشيخ الصفار ينثرون بذور العلم والفكر والمعرفة؛ لينبت من خلفهم العديد من الشباب الذين لا يستسلمون في طريق الوصول للقمة، مستندين على الدين كقوة وعلى الأخلاق كدليل.

أنا وأنتم جميعا باستطاعتنا مواصلة النمو بمدرسة أهل البيت، باستمرارية موسم عاشوراء بنجاح رغم جائحة كورونا، عن طريق فهمنا لكيفيه سير الأمور الاحترازية ونشر الوعي؛ لنثبت للعالم بأجمعه أننا من مدرسة راقية، محبة للخير، ساعية له، مواكبة لكل الظروف، مستغلة لكل الإمكانيات؛ لترفرف راية الحسين ويصدح اسمه في فضاء عالمنا في محرم من كل عام حتى قيام الساعة.