توجيهات المرجعية الدينية

 

أورد الشيخ الكليني في كتاب الكافي بسند موثق، عن أبي بصير قال سمعت أبا عبدالله يقول: «رَحِمَ اللهُ عَبدًا حَبَّبَنا إلَى النّاسِ ولَم يُبَغِّضنا إلَيهِم!

أمَا وَاللهِ لَو يَروونَ مَحاسِنَ كَلامِنا لَكانوا بِهِ أعَزَّ، ومَا استَطاعَ أحَدٌ أن يَتَعَلَّقَ عَلَيهِم بِشَيءٍ، ولكِنَّ أحَدَهُم يَسمَعُ الكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إلَيها عَشرًا»[1] .

لا يكفي المؤمن أن يكون محبًّا لأهل البيت ، بل عليه أن يعمل لتعزيز محبتهم في نفوس الآخرين وخاصة أبناء الأمة الإسلامية، وذلك لأنّ محبتهم فرض من الله في القرآن أنزله ـ على حدّ تعبير الإمام الشافعي ـ إشارة إلى قوله تعالى: ﴿قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى.

فتعزيز محبة أهل البيت في النفوس تنفيذ وتحقيق لأمر إلهي، ولقول رسول الله : «أَحِبُّوا اللهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي بِحُبِّ اللهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي»[2] .

فمحبة أهل البيت أمر إلهي وضرورةٌ دينية، وعلى الإنسان المؤمن أن يسعى لتعزيز هذا الواجب الديني، فلا يكتفي بحبّهم، بل عليه أن يدعو الآخرين ويجذبهم بالقول والعمل، لذلك يقول الإمام الصادق في هذه الرواية (رَحِمَ اللهُ عَبدا حَبَّبَنا إلَى النّاسِ) أي جعل الناس يحبونا وينجذبون إلينا، (ولَم يُبَغِّضنا إلَيهِم) أي ولم يصدر عنه ما ينفر الناس من أهل البيت، فهو خطاب من الإمام لشيعته، يدعوهم أن يكونوا جاذبين ولا يكونوا منفّرين.

بالإضافة إلى أنّ محبتهم واجبة، فإنّها تقود إلى اتباع نهجهم والأخذ بتعاليمهم، فهم يمثلون المدرسة الأنقى في فهم الدين، ومعرفة أحكامه، وتعاليمه وحدوده، فإذا انجذب الناس إلى أهل البيت انجذبوا إلى النهج الديني السليم الصحيح.

الإمام في هذه الرواية يركز على دور الخطاب الصادر من الجهات الشيعية.

حينما تتحدثون للآخرين، يجب أن يكون كلامكم جاذبًا مستقطبًا لهم، واحذروا أن يكون منفّرًا، يبغّض الناس إلى أهل البيت.

كيف يكون كلام الشيعة جاذباً للآخرين؟

إذا تقيّد الشيعة بكلام أهل البيت، فكلامهم نور، لا يتكلمون إلّا بما هو حقّ وجاذب، وإذا رأينا كلامًا ينفّر الناس، فهو ـ بكلّ تأكيد ـ ليس من كلام أهل البيت؛ لأنّ كلامهم حسن جميل، يجذب الناس، لذلك يقول : (أمَا وَاللهِ لَو يَروونَ مَحاسِنَ كَلامِنا لَكانوا بِهِ أعَزَّ) لو أنّ الشيعة يتقيّدون بما قاله أهل البيت لأصبحوا محترمين أعزّاء، كما أنّ ذلك يجذبُ الناس ويشدّهم إلى أهل البيت.

لكن هناك مشكلة تتكرر على مرّ العصور، وهي أنّ بعض الشيعة يضيف كلامًا من عنده، كما يقول الإمام عن ذلك (ولكِنَّ أحَدَهُم يَسمَعُ الكَلِمَةَ فَيَحُطُّ إلَيها عَشرًا) أي يزيد على كلام أهل البيت!!

لماذا بعض الشيعة عندهم زيادات وإضافات على ما قاله أهل البيت؟!

البعض يقوم بذلك من منطلق عاطفي، يحب أهل البيت، فيختلق بعض الكرامات أو الأقوال، وينسبها لأهل البيت، مثل ذلك الراوي الذي أراد أن يُقرّب الناس إلى القرآن الكريم، فأخذ يضع الأحاديث المكذوبة في فضل القرآن!

(من قرأ هذه السورة فله كذا)! و (من قرأ هذه السورة يتخلّص من وجع الرأس)! و(من قرأ هذه السورة يحصل على كذا قصر)! وهكذا يؤلف لكلّ سورة فائدة من عنده!

روى السيوطي أنه (قيل لأبي عصمة نوح بن أبي مريم: من أين ذلك، عن عكرمة، عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة) [3] .

وقال القرطبي: (ذكر الحاكم وغيره من شيوخ المحدثين أنّ رجلًا من الزهاد انتدب في وضع أحاديث في فضل القرآن وسوره، فقيل له: لم فعلت هذا؟

فقال: رأيت الناس زهدوا في القرآن فأحببت أن أرغّبهم فيه، فقيل: فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كذب عليَّ متعمّدًا فليتبوأ مقعده من النار)، فقال: أنا ما كذبت عليه إنّما كذبت له!!) [4] .

البعض يحب أهل البيت ويريد أن يبكي الناس على مصائبهم، وأن يكرّس عظمتهم في النفوس من أجل ذلك، يختلق كرامات لا مصدر لها!

لا شك أنّ لأهل البيت كرامات، لكن الكلام فيما لا مصدره له، وما لم يقع.

هناك من يفعل ذلك بدافع مصلحي، يسترزق باختلاق الكرامات، فيكسب المال من خلال إقبال الناس عليه، كما ورد في رواية عن الإمام الصادق : «ومُستَأكِلٌ بِنَا الناسَ، ومَنِ استَأكَلَ بِنَا افتَقَرَ»[5] ، والفقر هنا هو الفقر المعنوي، فربما يحصل على أموال كثيرة، لكنه يصبح فقيرًا من الناحية المعنوية.

هناك من يضيف أقوالًا وروايات بغرض التشويه، وهم المناوئون لأهل البيت!

أورد العلامة المجلسي عن يونس، عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله يقول: «كان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي، فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ، ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبّثوها في الشيعة، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلوّ فذاك مما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم»[6] .

لكلّ هذه الأمور حصلت إضافات تنسب لأهل البيت فتنفر الناس منهم، وتسبب مشكلة للشيعة، تُعَقِّد علاقاتهم، وتخلق لهم العداوة مع الآخرين.

أهل البيت يريدون أن يعيش أتباعهم في معزّة واحترام، ولا يريدون لأتباعهم أن يكونوا مُهانين يتعرضون للمشاكل والضغوط.

هناك ضغوط تأتي على الشيعة ظلمًا وعدوانًا، مما يتطلب الصبر والاحتساب، لكن بعض الضغوط تأتي بسبب إضافات وافتراءات على أهل البيت لا أساس لها، هذا ما كان الأئمة يُحذّرون منه، ويوجّهون شيعتهم إلى أن يكونوا دقيقين حذرين في خطابهم لسدّ مثل هذه الثغرات.

أهل البيت ليسوا بحاجة إلى أن تصطنع كلامًا كاذبًا لترفع مكانتهم!

ومصائبهم الحقيقية كافية لإظهار ظلامتهم، وليسوا بحاجة إلى أن تخترع مصائب وتضيفها!

هذا ما كان يؤكد عليه الأئمة ولكن مع الأسف هناك توجهات تنشر الغلوّ والإضافات، مما سبّب إشكاليات كبيرة للشيعة، وخلافات في أوساط الأمة.

توجيهات المرجعية

كما كان الأئمة يرشدون الشيعة، ويؤكدون على ترشيد الخطاب الشيعي، فإنّ المراجع الكرام يلتزمون ذات المنحى والتوجه، يوجهون الشيعة أن يكونوا في سلوكهم وخطابهم ضمن مجتمعاتهم وأوطانهم وضمن أمتهم الإسلامية الواسعة سببًا للاستقطاب والجذب، لا الكراهية والتنفير، وألّا يقولوا شيئًا يعقّد علاقتهم مع الآخرين.

وحيث وفقني الله تعالى في بداية شهر ربيع الأول 1439ﻫ لزيارة مراقد الأئمة الطاهرين والالتقاء بالمراجع الكرام في النجف الأشراف، وفِي طليعتهم المرجع الأعلى السيد السيستاني حفظه الله، فقد حملني السلام إليكم وإلى جميع المؤمنين، كما أنه يدعو للجميع بالحفظ والرعاية والتسديد، وقد استفدت من توجيهاته المباشرة، وتوجيهات سائر المراجع والفضلاء المحيطين بهم، فيما يرتبط بنهج الخطاب الشيعي في هذا العصر.

لقد أكدوا على ضرورة أن يكون خطاب الشيعة منسجمًا مع توجيهات أهل البيت .

وألخّص ما استفدته في الأمور التالية:

الأمر الأول: الالتزام الديني

ألّا يكتفي الشيعة بادّعاء الانتماء لأهل البيت دون أن يكون هناك التزام بالأحكام الدينية، كما كان الأئمة يقولون: «مَا شِيعَتُنَا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطَاعَهُ»[7] ، فالمسألة ليست مجرد حفاظ على عنوان أو انتماء قبلي، بل لا بُدّ أن يحرص الشيعة على الالتزام بأحكام الدين، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في الاهتمام بالأحكام الشرعية، والحفاظ على أوقات الصلاة والاجتناب عن المعاصي والذنوب والمحرمات.

الأمر الثاني: العقلانية والاعتدال في عرض المذهب

جرى التأكيد من قبل المرجعية على أهمية عرض مذهب أهل البيت بعقلانية واعتدال، وأن يتجنب الخطباء والموجهون الخرافات والأساطير والغُلوّ والقصص التاريخية غير المحققة والمدققة.

وهناك رواية جميلة عن الإمام علي بن الحسين تؤكد هذا المعنى: «إيّاك أن تتكلم بما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك اعتذاره، فليس كلّ من تُسمعه شرًّا يمكنك أن تُوسعه عذرًا»[8] ، هذه الرواية مهمة جدًّا، ينبغي تأملها، والعمل بمضمونها.

بعض الخطباء أو (الرواديد) يتحدث عن أهل البيت، فيأتي بكلام ظاهره الغلوّ، فإذا أشكلت عليه، يقول: أقصد أن ذلك يكون بإذن الله!!

لماذا تطرح أمورًا تثير شبهة، ثم تحتاج إلى معالجتها؟!

من الخطأ عرض ما يثير الشك والشبهة، حتى لو كان في أصله صحيحًا، ما دام الناس لا يدركون القصد الحقيقي منه!

فأنت لا تتمكن من عرض المقدمات وشرح التفاصيل لكلّ واحد، لتزيل الشبهة من ذهنه؟!

يقول الإمام (ما يسبق إلى القلوب إنكاره) وإن كان لديك مبرر على ما تقول (وإن كان عندك اعتذاره فليس كلّ من تسمعه شرًّا يمكنك أن توسعه عذرًا)، التبرير الذي تذكره قد لا يقنع الطرف الآخر!!

وأنقل هنا فقرتين من التوصيات التي أصدرتها مرجعية السيد السيستاني قبيل شهر محرم لسنة ١٤٣٨ﻫ حيث تناولت هذا الموضوع:

تحرّي الدقة في ذكر الآيات القرآنية أو نقل الروايات الشريفة من الكتب المعتبرة أو حكاية القصص التاريخية الثابتة حيث إنّ عدم التدقيق في مصادر الروايات أو القصص المطروحة يفقد الثقة بمكانة المنبر الحسيني في أذهان المستمعين.

أن يترفع المنبر عن الاستعانة بالأحلام وبالقصص الخيالية التي تسيء إلى سمعة المنبر الحسيني وتظهره أنه وسيلة إعلامية هزيلة لا تنسجم ولا تتناسب مع المستوى الذهني والثقافي للمستمعين.

ذات مرة قال أحد العلماء: قلت لأحد خطباء المنبر لماذا تذكر هذه الرواية؟!

قال: وجدتها في كتاب!

وهل كلّ كتاب ينقل منه!

بيان المرجعية يقول (من الكتب المعتبرة) مما يعني التدقيق والتحقق.

إنّ مذهب أهل البيت يتميز بالعقلانية والعلمية، ومن غير المناسب أن نشحن خطاباتنا بالأطياف والأحلام، فذلك يقلّل من قيمة المنبر والخطاب الديني.

إنّ بيان المرجعية يؤكد على ضرورة الترفع عن الاستعانة بالأحلام والقصص الخيالية التي تسيء إلى سمعة المنبر، فبعض هذه الأحلام لم تحصل، لكن الناس يتناقلونها دون مصدر!!

وإذا كانت صحيحة هل هي مصدر للتوجيه والتثقيف؟!

لقد أكد المراجع الكرام على هذا الأمر، وطلبوا نصح وتذكير الخطباء والرواديد أن يتجنبُوا الروايات الضعيفة، والقصص غير الثابتة، حتى لا تشوّه سمعة المذهب ولا تتعقّد علاقة الطائفة ببقية المسلمين.

الأمر الثالث: رعاية السلم الاجتماعي وتجنب الخلافات

المجتمع الشيعي مجتمع متنوع، فيه توجهات مختلفة متعددة، وهناك حرية لبحث الآراء والأفكار، لكن لا يصح أن تكون هناك توترات، فلا ينبغي أن تطرح القضايا بطريقة متشنجة، أو تثار الاختلافات في المجتمع.

مع تأكيد المرجعية العليا على هذا الأمر، إلَّا أنّ هناك توجهات تذهب بالخطاب الشيعي إلى منحى آخر، وهنا يأتي دور الجمهور، فلا ينبغي لنا أن نشجع مثل هذه التوجهات، ولا بُدّ أن نقول لهؤلاء إنّ ذلك يشوّه المذهب ويضر بالطائفة.

في بعض الأحيان يكون مزاج المجتمع متناغمًا مع هذه الحالة، وكلما ذكر الخطيب معجزة أعظم، أو مصيبة تبكي أكثر، تفاعل معه الجمهور، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار التأكد والتوثّق، ومسألة الانعكاسات في المجتمع العام، وسمعة المذهب والطائفة، وهذا يكرّس الحالة السلبية فلا يتخلص المنبر من بعض ما يشوبه.

لذلك على الناس أن يتحملوا مسؤوليتهم في تنفيذ هذه التوجهات الصادرة من أئمة أهل البيت ومن المرجعية الدينية.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإيّاكم على ولاية رسول الله وأهل بيته الكرام وأن يجعلنا من السائرين على طريقهم والآخذين بنهجهم.

* خطبة الجمعة بتاريخ 27 ربيع الأول 1439هـ الموافق 16 ديسمبر 2017م.
[1]  الكافي، ج8، ص 229، حديث293.
[2]  المستدرك على الصحيحين، حديث رقم 4716.
[3]  جلال الدين السيوطي، دريب الراوي، ج1، ص332.
[4]  أبو عبدالله محمد القطربي الأندلسي، التذكار في أفضل الأذكار، ص226.
[5]  الشيخ الصدوق، الخصال، ج1، ص103.
[6]  بحار الأنوار، ج٢، ص٢٥٠.
[7]  الكافي، ج2، ص74، حديث 3.
[8]  بحار الأنوار، ج٧١، ص١٥٦.