المسؤولية الفردية واستقلال الشخصية

بعض المبادئ يُكرّر القرآن الكريم طرحها في أكثر من مورد من آياته الكريمة، مما يكشف أهميتها، وضرورة التأكيد عليها، ومنها مبدأ المسؤولية الفردية، وأنّ المرء مسؤول عن عمله، وأنه سيتحمّل دون غيره أعباء ونتائج عمله.

ففي خمسة موارد مختلفة يؤكّد القرآن الكريم هذا المبدأ، بتعبير واحد: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.

والوزر هو الحِمْل، وهو ما يحمله المرء على ظهره.

          يقول تعالى في الآية 164 من سورة الأنعام: ﴿وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.

          ويقول تعالى في الآية 15 من سورة الإسراء: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.

          ويقول تعالى في الآية 18 من سورة فاطر: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ.

          ويقول تعالى في الآية 7 من سورة الزمر: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.

          ويقول تعالى في الآية 38 وما قبلها من سورة النجم: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ ﴿٣٦﴾ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ ﴿٣٧﴾ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ.

كما جاء التأكيد على نفس المبدأ بألفاظ وتعبيرات أخرى في عدد آخر من الآيات الكريمة، فلماذا التأكيد على هذا المبدأ؟

لأنّ الإنسان كثيرًا ما يغفل عن هذا المبدأ الأساس، فيقع في توجّهات وسلوكيات تقوده إلى الخطأ والانحراف، في تعامله مع ربه ومع الناس. ومن تجليات ذلك الصور التالية:

يوم لا تنفع القرابة:

1.         قد يندفع الإنسان نحو ذنب أو معصية لله تعالى، إطاعة لجهة تطلب منه ذلك، أو تجاوبًا مع رغبة من يحبّه أو يحترمه، أو له مصلحة معه، وهنا يحتاج الإنسان لاستحضار هذا المبدأ الذي تؤكّده الآيات الكريمة، ومفاده أنّ هذا الآخر لن يتحمّل عنك، ولن يتحمّل معك يوم القيامة نتائج المعصية والذنب الذي تقوم به، فستقف للحساب وحدك أمام الله تعالى، تحمل أوزار الذنب الثقيلة على ظهرك، وتواجه العذاب والعقوبة الإلهية، ولن يبادر أحد ممن دفعك إلى المعصية لمساعدتك، ولو استغثت بهم ورجوتهم، ولو كانوا من أقرب المقربين إليك، وأعزّهم عليك، كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۚ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ[سورة فاطر، الآية: 18].

أبوك وأمك أو زوجتك أو أولادك أو أصدقاؤك، لا ينبغي أن يدفعك التجاوب مع أحد منهم، للانزلاق نحو المعصية والخطأ، فإنّ أحدًا منهم لن يفيدك يوم القيامة؛ لأنّ كلّ واحد منهم مشغول يومئذٍ بنفسه، ولا فرصة ولا قدرة لديه للاهتمام بغيره، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ﴿٣٣﴾ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ﴿٣٤﴾ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴿٣٥﴾ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ﴿٣٦﴾ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[سورة عبس، الآيات33 ـ37].

فاحذر أن تقع في المعصية بتأثير ارتباطاتك العائلية.

تقف أمام الله فردًا:

وقد ينتمي الإنسان لجماعة أو حزب أو تنظيم أو مؤسسة، أو يتبع زعيمًا دينيًّا أو سياسيًّا، وعليه أن يعلم أنّ كلّ الانتماءات يجب أن تكون تحت سقف القيم الدينية، فلا يدفعه انتماء أو اتّباع زعامة لتخطّي القيم والتعاليم الدينية؛ لأنّ الحساب يوم القيامة فردي وليس جميعًا، مما يعني أنّ كلّ إنسان سيقف أمام منصّة القضاء الإلهي بمفرده، بعيدًا عن قومه وجماعته، يقول تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[سورة مريم، الآية: 95]، ويقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ[سورة الأنعام، الآية: 94].

وحتى لا ينخدع أحدٌ بأيِّ وعود وهمية، من أيّ جهة تدّعي أنّها ستحميه يوم القيامة، وتغطي مخالفته ومعصيته، يقول تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ[سورة العنكبوت، الآية: 12].

ويا خسارة من يتّبع زعامته أو جماعته اتّباعًا أعمى، ويرتكب الموبقات والمحرّمات لدعمها وتأييدها، يا خسارته حينما تتبرأ منه يوم القيامة، وتتنصّل من أعماله وموبقاته التي قام بها دفاعاً عنها، يقول تعالى: ﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ[سورة البقرة، الآية: 166].

إنّ هذه الصور والمشاهد التي تعرضها الآيات الكريمة، تريد ترسيخ مبدأ المسؤولية الفردية، وأن يحفظ الإنسان استقلالية شخصيته عن الوقوع تحت تأثير الآخرين، على حساب عقله وضميره والقيم الدينية التي يؤمن بها.

وكما ورد عن الإمام عليّ بن موسى الرضا أنه قال: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) [1] .

لا يؤاخذ البريء بجرم غيره:

2.         في تعامل الإنسان مع الآخرين عليه أن لا يُؤاخذ أحدًا بما فعل غيره، فلا يُؤاخذ البريء بجرم المذنب، كما كان سائدًا في الجاهلية إذا اعتدى فرد من قبيلة، فإنّ كلّ أفراد قبيلته يكونون هدفًا لأخذ الثأر من قبل القبيلة الأخرى.

وما يزال البعض من الناس ينطلق من هذا القانون الجاهلي، فإذا حصل له نزاع مع أحد، فإنه يتخذ موقف العداء والقطيعة مع ذويه وأقربائه وأصدقائه، وإذا لم يعجبه كلام أو موقف من شخص، يتخذ موقفًا سلبيًّا من كلّ جماعته، وهنا يأتي مبدأ ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ بأن لا تحمّل أحدًا مسؤولية وعبء موقف وعمل غيره.

وهذا ما تقرره القوانين العادلة، ومواثيق حقوق الإنسان، التي ترفض العقوبات الجماعية، كالذي تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين، فإذا انتفض أحدهم للدفاع عن أرضه وشعبه وحقوقه المشروعة، فإنّ إسرائيل لا تكتفي بسجنه أو قتله فقط، بل تصبّ جام غضبها على كلّ عائلته، حيث تهدم دارهم، وتتخذ بحقهم الإجراءات الظالمة.

وهذا ما رأيناه في عهد صدام في العراق، حيث كان يتخذ إجراءات قاسية ظالمة ضدّ عوائل بأكملها، إذا تصدّى أحد أبنائها لمواجهة طغيانه، فينالهم التهجير أو السجن أو القتل أو سائر الضغوطات المختلفة التي تحوّل حياتهم إلى جحيم لا يطاق.

صلاح الفرد وسوء العائلة:

3.         ومن المشاهد التي يغيب فيها استحضار هذا المبدأ القرآني ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ على صعيد العلاقات الاجتماعية، مشهد المبالغة في التحفظ والتردّد عند اختيار الزوج والزوجة، حين يكون أحد من عائلته أو عائلتها غير سويّ السيرة والسلوك، حيث واجهتنا بعض الحالات التي يرغب فيها شاب بالاقتران بفتاة يراها صالحة مناسبة له، لكن أهله يعترضون على اختياره لتلك الفتاة، ويمارسون مختلف الضغوط عليه لتركها، لا لإشكال أو خلل في ذات الفتاة، وإنّما لأنّ أحدًا من أهلها متورّط في بعض الانحرافات!! فما ذنب الفتاة نفسها؟ وأينهم عن هذا المبدأ القرآني ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ؟ وكذلك الحال في موقف بعض العوائل المتحفّظ الرافض حين يتقدم لخطبة ابنتهم شخص صالح؛ لأنّ فلانًا من عائلته غير صالح!!

صحيح أنّ هناك أحاديث وروايات تحبّذ اختيار الزوج والزوجة من العوائل الكريمة الأصل، لكن هذه النصوص تشير إلى وجود المقتضي والأرضية المهيأة للانحراف في نفس من يتربى في عائلة تسودها أجواء الانحراف والفساد، ولا تعني حتمية حصول ذلك، فإذا تبيّن أن هذا الشخص قاوم ذلك المقتضي بموانع إرادته ووعيه، وتغلب على احتمالات التأثر بأجواء عائلته، وثبت صلاحه، فلماذا نتحفظ عليه ونعاقبه بذنب عائلته؟

إنّ الأطباء مثلاً يتحدثون عن أمراض الدم الوراثية، لكنهم لا يجزمون بانتقالها وراثيًّا لكل فرد من أفراد العائلة، والإجراء العقلائي هو القيام بالفحوصات اللازمة، فإذا تبيّن خلو الفرد من تلك التأثيرات المحتملة، يكون من الناحية الصحية سويًّا سالمًا.

وكذلك الحال في الجوانب النفسية والسلوكية، فلو كان في عائلة الولد أو الفتاة خلل في السلوك والأخلاق، ورأينا سيرتهما صالحة مستقيمة، فهذا يعني تجاوزهما لتلك الآثار المحتملة. وهنا لا ينبغي التوقف والتردّد في الزواج والاقتران.

بين الصفات الذاتية والصفات العائلية:

ونسوق هنا شاهدًا ومثالًا مما ذكرته الروايات عن سعد بن عبد الملك الأموي، ومعروف ما كانت عليه الأسرة الأموية أيام حكمها وتسلّطها من فساد وانحراف، ومن عداء أهل البيت ، لكن الإمام محمد الباقر سمّى سعد بن عبد الملك (سعد الخير)، وقد ورد أنه دخل يومًا باكيًا على الإمام الباقر، فقال له: ما يبكيك يا سعد؟ قال: كيف لا أبكي وأنا من الشجرة الملعونة في القرآن؟ فقال له الإمام الباقر : (لست منهم، أنت أمويّ منّا أهل البيت، أما سمعت قول الله عزّ وجلّ يحكي عن إبراهيم: ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)[2]  .

على أنّ النصوص الواردة حول اختيار الزوج والزوجة، والصفات التي ينبغي الحرص عليها فيهما، تركّز بالدرجة الأولى على الصفات الذاتية في شخصيتيهما، من التديّن والصلاح ومكارم الأخلاق، أما النصوص التي تتحدث عن صلاح العائلة وصفاتها فهي قليلة، والمعتبر منها سندًا أقلّ، إضافة إلى ما ذكرناه من أنّها تدعو للانتباه من التأثيرات السلبية للعائلة على الولد أو الفتاة، فإذا تبيّن تجاوزهما لتلك التأثيرات فلا داعي للتردد والتوقف.

وخاصة في هذا العصر الذي انخفضت فيه تأثيرات الوراثة والتربية، بسبب عوامل التأثير العامة، وشعور الأفراد بذواتهم، وممارستهم لاستقلال الشخصية.

من اختار الضلال عليه وزره:

4.         يتمنّى المؤمن أن يقود الآخرين إلى طريق الإيمان والخير، ويسعى لإقناعهم بالابتعاد عن الضلال والشرّ، لكن الآخرين لهم رأيهم وإرادتهم، فقد يتوفقون للاستجابة له فيفوزون، ويحظى هو بالثواب العظيم لهدايتهم، وقد يرفضون دعوته جهلًا وعنادًا، أو لأيّ سبب آخر، وفي ذلك خسارة لهم، لكنهم وحدهم يحملون وزر ضلالهم، ولا يلحق المؤمن شيء من عذابهم وشقائهم، لذلك عليه ألّا يتشنّج ولا يتوتر نفسيًّا لموقفهم الرافض للهداية، وعليه أن يستحضر المبدأ القرآني ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ، يقول تعالى: ﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ[سورة الإسراء، الآية: 15]، ويقول تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّـهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ[سورة الزمر، الآية: 7].

الجمعة 1 ربيع الآخر 1438هـ الموافق31 ديسمبر2016م
[1] بحار الأنوار، ج10، ص356.
[2] أبو القاسم الخوئي. معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرواة، ج8، ص96.