الموضوعية في توصيف الخُصُوم

 

في الخصومات العقدية والسياسية والاجتماعية، يكون للإعلام دورٌ كبيرٌ كسلاح في معركة المواجهة، بين الأطراف المتنازعة.

فكلّ طرف يستخدم الإعلام ضدّ الطرف الآخر، لتحقيق أهداف، من أبرزها:

أولًا: تعبئة الأتباع ورفع معنوياتهم بإقناعهم، أنّ من يواجهونه سيئ، وخطير على مصالحهم، وأنه لا بُدّ من مواجهته.

ثانيًا: التأثير على ساحة الطرف الآخر، بزعزعة ثقتهم بأنفسهم وقيادتهم ومشروعهم، من أجل إيقاع الهزيمة النفسية بهم.

ثالثًا: كسب الرأي العام بإثبات سوء وعدوانية الطرف الآخر ومبررات مواجهته.

وكلّما كان الإعلام موضوعيًّا يتوخّى الصدق والدقة في الأخبار والمعلومات، كان أقدر على التأثير وتحقيق أهدافه المرجوة.

أمّا إذا كان إعلامًا تهريجيًّا، يستخدم الأكاذيب، ويستخفّ بعقول الناس، فإنه سيفقد مصداقيته، وينعدم تأثيره، حتى لو انخدع به بعض الناس لبعض الوقت، فإنّهم سيرفضونه حينما يكتشفون زيفه.

  • إدارة الخلافات والتهريج الإعلامي

وفي ساحتنا العربية يعاني الخطاب الإعلامي المواكب للصراعات والخلافات هشاشة وخفة، حيث تغلب عليه إلقاء التّهم جزافًا، وإطلاق التوصيفات زورًا. مما يجعله عاجزًا عن كسب ثقة المتلقّين وقبولهم، حتى ضمن دائرة منتجيه.

وتتركز هذه الحالة أكثر فيما يرتبط بالخلافات الدينية، حيث يكيل كلّ طرف للآخر أسوأ الاتّهامات والتوصيفات، دون أيّ ضوابط شرعية أو منطقية.

إنّه يمكن تفهّم الخلاف العقدي والفكري، وأنّ كلّ طرف فيه يرى أحقيّة موقفه ورأيه، وإنّ الطرف الآخر قد أخطأ الحقّ وسلك طريق الباطل، ومن الطبيعي أن يكون لكلّ طرف إعلامه وخطابه الذي يحصّن به أتباعه، ويعزّز قناعتهم بمذهبهم وطريقتهم، ويبيّن الأخطاء والانحرافات التي يرى أنّ الطرف الآخر قد وقع فيها.

كما يمكن تفهّم الصراع على المكاسب والمواقع، واتّهام كلّ طرف للآخر بعدم الجدارة والاستحقاق، وما يتبع ذلك من ادّعاءات واتّهامات، يجتهد كلّ طرف في دعمها بالأدلة وأساليب الإقناع للمتلقين.

لكن ما لا يمكن فهمه عرض تهم وتوصيفات لا يقبلها عقل ولا منطق، تخالف الحقائق والوقائع الواضحة، مثلما كان يشاع عن وجود إضافة في الخلقة في أجسام أتباع مذهب معيّن، وهي ذنب كأذناب الحيوانات أسفل الظهر.

ونسمع الآن في غمرة الصراع السّياسي والطائفي في المنطقة توصيف الشيعة والإيرانيين بأنّهم مجوس، حيث كتب أحد منظّري هذا التوجه الطائفي كتاباً عنوانه (وجاء دور المجوس)[1] وهو الدكتور محمد سرور زين العابدين وطبعه باسم مستعار، وتبنّت جهات نشره بشكل واسع.

وما زالت بعض المنابر والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام تروّج لمثل هذا التوصيف، وهو توصيف لا يقبله عقل ولا منطق مهما كانت مبرّرات الصراع السياسي والطائفي، ذلك أنّ المجوسية ديانة سابقة كاليهودية والمسيحية، فكيف يوصف بها مسلمون من أهل القبلة؟

وإذا كان الأمر تعييرًا لهم بأصولهم السابقة قبل الإسلام فإنّ أصول العرب هي الوثنية وعبادة الأصنام، فهل يصحّ تعييرهم بذلك؟

ومثلما تروّجه بعض الأوساط من المتطرفين الشيعة أنّ أهل السنة يبغضون أهل البيت وأنّهم أعداء لهم، مع أنّ كلّ سنّي يختم صلاته بالصلاة على محمد وآله في تشهد كلّ صلاة، وتعجّ كتبهم بذكر فضائل أهل البيت !!

ومن شواهد هذه التوصيفات والاتّهامات المفضوحة ما نشرته جريدة "الشرق الأوسط" يوم الأحد الماضي (20 صفر/20 نوفمبر) على صدر صفحتها الأولى، من التحذير من حالات حمل غير شرعي في أوساط الزائرين للإمام الحسين بن عليّ بمناسبة ذكرى أربعين استشهاده في كربلاء، حيث يشارك ملايين الشيعة من مختلف أنحاء العالم في مراسيم هذه الزيارة في أجواء دينية ولائية.

والأكثر افتضاحًا أنّها نسبت الاتّهام لمنظمة الصحة العالمية، التي سارعت إلى تكذيب هذا الادّعاء، وأنه افتراء على المنظمة، وحذّرت من زجّ اسم المنظمة في مثل هذه الأكاذيب.

فبأيّ منطق يُتهم ملايين من المسلمين العاشقين لزيارة سبط رسول الله بالدعارة والفحشاء؟

ومن المؤسف أن نجد جهات دينية تروّج لمثل هذه الأكاذيب المفضوحة بدافع طائفي، ولا يقتصر مثل هذا الأسلوب على جبهات الصراع بين الطوائف، بل نجده حتى في الصراعات الداخلية بين أجنحة الطوائف، والمذاهب.

فعلى أثر الخلاف الذي حدث في السّاحة الشيعية بعد بروز شخصية العالم الإحسائي الشيخ أحمد زين الدين (1166 هـ - 1241 هـ) رحمه الله وانتماء جماعة لمدرسته العقدية التي تعرف باسم الشيخية، تحدّث يومًا أحد علماء الشيعة في العراق متناولًا شخصية الشيخ زين الدين بقوله: إنّه أحد قسيسي الغرب في (أندونيسيا) جاء إلى (البحرين) و(يزد)[2] .

فهل يجيز الخلاف معه في الرأي إنكار نسبه ودينه وانتمائه لبلده؟ مع أنّ عائلته وشخصيته معروفة في مجتمعه وفي الأوساط العلمية المختلفة.

 

  • إنصاف الخصوم

وهنا تبدو الأخلاقية العالية، والالتزام القيمي عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب حين رفض وصف مناوئيه الذين أعلنوا الحرب عليه، وخاضوا القتال ضدّه، رفض وصفهم بالشرك والنفاق، وحصر الخلاف معهم في إطار بغيهم وعدوانيتهم، مقرًّا بأخوّتهم الدينية، مع أنّه لو طبّق عليهم بعض النصوص وإخبارات رسول الله عنهم، لكانوا مستحقين لأسوأ التوصيفات القادحة لدينهم.

لكنه أراد أن يرسي نهج الموضوعية والإنصاف في التعامل مع الخصوم. ينقل ابن أبي شيبة في المصنف أنّ عَلِيٍّا سُئِلَ عَنْ قَتْلَى الْجَمَلِ، أَمُشْرِكُونَ هُمْ؟ قَالَ: «لا، بَلْ مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا» قِيلَ: فَمُنَافِقُونَ؟ قَالَ: «لا، إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلًا» قِيلَ: فَمَا هُمْ؟ قَالَ: «إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»[3].

وجاء في وسائل الشيعة عن جعفر عن أبيه: «أَنَّ عَلِيًّا لَمْ يَكُنْ يَنْسُبُ أَحَداً مِنْ أَهْلِ حَرْبِهِ إِلَى الشِّرْكِ وَلَا إِلَى النِّفَاقِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: هُمْ إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا»[4].

وفي هذا السياق نقل ابن ابي الحديد: عن عبد اللّه بن شريك قال: خَرَجَ حِجرُ بنُ عَدِيٍّ وعَمرُو بنُ الحَمِقِ يُظهِرانِ البَراءَةَ وَاللَّعنَ مِن أهلِ الشّامِ، فَأَرسَلَ إلَيهِما عَلِيٌّ عليه السلام أن كُفّا عَمّا يَبلُغُني عَنكُما، فَأَتَياهُ فَقالا: يا أميرَ المُؤمِنينَ، ألَسنا مُحَقّينَ؟ قالَ: بَلى. قالا: أوَلَيسوا مُبطِلينَ؟ قالَ: بَلى. قالا: فَلِمَ مَنَعتَنا مِن شَتمِهِم؟ قالَ: كَرِهتُ لَكُم أن تَكونوا لَعّانينَ شَتّامينَ، تَشتُمونَ وتَتَبَرَّؤونَ، ولكِن لَو وَصَفتُم مَساوِئَ أعمالِهِم فَقُلتُم: مِن سيرَتِهِم كَذا وكَذا ومِن عَمَلِهِم كَذا وكَذا، كانَ أصوَبَ فِي القَولِ، وأبلَغَ فِي العُذرِ. ولَو قُلتُم مَكانَ لَعنِكُم إيّاهُم وبَراءَتِكُم مِنهُم: «اللّهُمَّ احقِن دِماءَنا ودِماءَهُم، وأصلِح ذاتَ بَينَنا وبَينِهِم، وَاهدِهِم مِن ضَلالَتِهِم، حَتّى يَعرِفَ الحَقَّ مِنهُم مَن جَهِلَهُ، ويَرعَوِيَ عَنِ الغَيِّ وَالعُدوانِ مَن لَهِجَ بِهِ»[5].

وعلى هذا الهدي الإسلامي العلويّ سارت المرجعية الدينية في العراق، فمع كلّ الفظائع والجرائم التي يرتكبها الدواعش في العراق، من سفك الدماء وهتك الحرمات، واستهداف الأبرياء في المساجد والحسينيات والأسواق والتجمعات الشعبية، إلّا أنّ المرجعية لم تطلق عليهم عنوان (النواصب).

فقد كنت بمحضر أحد أبرز المراجع في النجف الأشرف الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، فسأله أحد السّادة عن الدواعش وهل تنطبق عليهم أحكام النواصب؟

فأجاب: إنّهم بغاة مجرمون يُحاربون لبغيهم ولمواجهة عدوانهم، لكن لا يعتبرون نواصب؛ لأنّ الناصبي من يعلن بغض أهل البيت، وهذا لم نسمعه منهم.

ومن مصاديق هذا النهج في الموضوعية وإنصاف الخصوم والمخالفين ما يقرّره الفقهاء في مسألة جواز غيبة الفاسق المتجاهر بالفسق، من أنّ ذلك محصور فيما تجاهر به من الفسق، أمّا العيوب الأخرى فلا يجوز ذكره واستغابته بها.

يقول السيد السيستاني: المتجاهر بالفسق يجوز اغتيابه في غير العيب المتستر به[6].

وحين يتحدث العلماء في تفسير قوله تعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظُلِمَْ (148) سورة النساء، ويستنبطون منها أنه يجوز للمظلوم فضح الظالم والإجهار بظلامته، وأنّ ذلك حقّ له وليس مبغوضًا من قبل الله تعالى، فإنّهم في ذات الوقت يحصرون هذا الحقّ في مجال ما ناله من ظلامة، ولا يصحّ له أن يتجاوز ذلك لقذفه بتهم أخرى.

فإذا كان قد نهب ماله مثلًا يجوز له أن يعلن تلك الظلامة، ويشهّر بالمعتدي عليه وأنّه معتدٍ غاصب، لكن لا يجوز له أن يتّهمه بالزنا مثلًا، فإن اتّهمه صار معرّضًا لحدّ القذف.

يقول ابن عاشور في تفسيره: (وقد دلَّت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حدّ التظلّم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم؛ وأن يقول للناس: إنَّه ظالم. ومن ذلك الدّعاءُ على الظالم جهرًا؛ لأنّّ الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مَخصوص بما لا يؤدّي إلى القذف، فإنّ دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرّض لِحدّ القذف أو تعزير الغيبة، قائمة في الشريعة)[7].

  • نحو مراجعة عميقة

إنّ الوسط الديني بحاجة إلى مراجعة عميقة، وإعادة نظر جريئة، في أساليب إدارة الخلافات الداخلية، بما يتواءم مع تعاليم الدين، ومكارم الأخلاق، ومنطق العقل، ذلك أنّ التديّن الذي لا ينعكس على سلوك المتديّن مع خصومه ومخالفيه، والتزامه العدل والإنصاف في التعامل معهم، هو تديّن زائف، حيث يقول تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) سورة المائدة.

كما أنّ المصداق الحقيقي للتحلّي بمكارم الأخلاق، إنّما يتجلّى في ضبط الإنسان لانفعالاته عند حالات الخصومة والعداء.

وحين يتحكم الإنسان بعقله، فسيهديه إلى أنّ الفوز والنجاح لا يُنال بالتهريج، والأكاذيب، والاتّهامات الباطلة، وكما قال الإمام عليّ : "مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الإثْمُ بِهِ"[8].

 

* حديث الجمعة 25 صفر 1438ﻫ الموافق 25 نوفمبر 2016م

[1] نشر عام 1981م باسم مستعار هو الدكتور عبد الله الغريب، ثم طبع باسمه الصريح، وقد صدرت الطبعة العاشرة عن دار الجابية، سنة 1430هـ.
[2] أعلام هجر، السيد هاشم الشخص، ج1، صفحة 228.
[3] المصنف لابن أبي شيبة ٨، صفحة ٧٠٧، ح7، وورد في مستدرك الوسائل 11، صفحة68، ح19.
[4] وسائل الشيعة، ج15، صفحة83.
[5] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 3، صفحة181.
[6] السيد السيستاني، منهاج الصالحين، الجزء الأول، باب التقليد، مسألة29.
[7] تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، ج4، صفحة294.
[8] نهج البلاغة، قصار الحكم رقم (327).