توجهات مصلحية بغطاء ديني

 

     تقلّد الامام الثامن من أئمة أهل البيت عليّ بن موسى الرضا مهام الإمامة في ظروف بالغة الصعوبة بعد استشهاد الإمام موسى بن جعفر الكاظم ، في سجون السلطة العباسية (سنة 173هـ)، فقد كان قمع السلطة شديدًا على أهل البيت وأتباعهم في عهد هارون الرشيد، كما أنّ غياب الإمام الكاظم لسنوات في السجن ترك فراغًا في السّاحة الشيعية، مكّن لبعض مراكز القوى الدينية والاجتماعية أن تنموَ بعيدًا عن الإشراف والتوجيه المباشر من قبل الإمام.

   لذلك من الطبيعي أن تواجه الإمام عدد من المشكلات والتحدّيات، كان من أبرزها مشكلة الواقفة، التي تتمثل في ذهاب بعض كبار أصحاب أبيه الإمام الكاظم إلى القول بأنّ الإمام موسى الكاظم لم يمت، وأنّه حيّ يرزق، وأنّه القائم من آل محمد، وأنه خرج من السجن ولم يره أحد نهارًا، ولم يعلم به، وأنّ السّلطان وأصحابه ادّعوا موته، وموّهوا على الناس وكذبوا، وأنّه غاب عن الناس واختفى[1].

   ومؤدّى هذه الفكرة إنكار إمامة الإمام الرضا وعدم التسليم إليه، باعتبار أنّ مسيرة الإمامة توقّفت عند أبيه.

  • الواقفة دافع مصلحي

  ويبدو من خلال الروايات والنصوص التاريخية أنّ الدافع لتبنّي هذه الفكرة هو دافع مصلحي مالي، لدى القادة الذين طرحوها، فقد كانت بأيديهم أموال تعود للإمامة، وإقرارهم بموت الإمام الكاظم يعني إلزامهم بدفع تلك الأموال إلى خلفه الإمام الرضا ، بينما إنكارهم لموت الإمام وادّعاؤهم غيبته على أساس أنه القائم المهدي، يبرّر بقاء الأموال بأيديهم وتصرّفهم بها.

     جاء في كتاب وجّهه الإمام الرضا للبيزنطي عن الواقفة وزعمائهم ما نصّه: "أَمَّا ابْنُ السَّرَّاجِ فَإِنَّمَا دَعَاهُ إِلَى مُخَالَفَتِنَا وَالْخُرُوجِ عَنْ أَمْرِنَا، أَنَّهُ عَدَا عَلَى مَالٍ لِأَبِي الْحَسَنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمٍ فَاقْتَطَعَهُ فِي حَيَاةِ أَبِي الْحَسَنِ، وَكَابَرَنِي عَلَيْهِ وَأَبَى أَنْ يَدْفَعَهُ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مُسَلِّمُونَ مُجْتَمِعُونَ عَلَى تَسْلِيمِهِمُ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا إِلَيَّ، فَلَمَّا حَدَثَ مَا حَدَثَ مِنْ هَلَاكِ أَبِي الْحَسَنِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اغْتَنَمَ فِرَاقَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ وَأَصْحَابِهِ إِيَّايَ، وَتَعَلَّلَ، وَلَعَمْرِي مَا بِهِ مِنْ عِلَّةٍ إِلَّا اقْتِطَاعُهُ الْمَالَ وَذَهَابُهُ بِهِ"[2].

    ونقل الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن يونس بن عبد الرحمن قال: "مات أبو إبراهيم [موسى الكاظم] وليس من قوّامه أحد إلا وعنده المال الكثير، وكان ذلك سبب وقفهم وجحدهم موته، طمعًا في الأموال، كان عند زياد بن مروان القندي سبعون ألف دينار، وعند عليّ بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.

فلما رأيت ذلك وتبيّنت الحقّ وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا ما علمت، تكلّمت ودعوت الناس إليه، فبعثا إليَّ وقالا: ما يدعوك إلى هذا؟ إن كنت تريد المال فنحن نغنيك وضمنا لي عشرة آلاف دينار،

وقالا لي: كُفّ.

فأبيت، وقلت لهما: إنا روينا عن الصادقين عليهم السلام أنهم قالوا: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه، فإن لم يفعل سلب نور الإيمان، وما كنت لأدع الجهاد وأمر الله على كل حال، فناصباني وأضمرا لي العداوة"[3].

  وروي أيضًا عن أحمد بن حماد قال: "كان أحد القوّام عثمان ابن عيسى، وكان يكون بمصر، وكان عنده مال كثير وستّ جوارٍ قال: فبعث إليه أبو الحسن الرضا فيهنّ وفي المال قال: فكتب إليه: إنّ أباك لم يمت. قال: فكتب إليه: إنّ أبي قد مات وقد اقتسمنا ميراثه، وقد صحّت الأخبار بموته، واحتج عليه فيه، قال: فكتب إليه إن لم يكن أبوك مات فليس لك من ذلك شيء، وإن كان قد مات على ما تحكي فلم يأمرني بدفع شيءٍ إليك وقد أعتقت الجواري وتزوجتهنّ"[4].

وفي إعلام الورى للطبرسي: "أجمع أصحاب أبيه أبي الحسن موسى عليه‌ السلام على أنّه نصّ عليه وأشار بالإمامة إليه، إلاّ من شذّ عنهم من الواقفة المسمّين (الممطورة) والسبب الظاهر في ذلك طمعهم فيما كان في أيديهم من الأموال المجباة إليهم في مدّة حبس أبي الحسن موسى عليه‌ السلام وما كان عندهم من ودائعه، فحملهم ذلك على إنكار وفاته وادّعاء حياته، ودفع خليفته بعده عن الإمامة، وإنكار النصّ عليه ليذهبوا بما في أيديهم ممّا وجب عليهم أن يسلّموه إليه"[5].

     ويبدو أنّهم استقطبوا جزءًا من النخبة الشيعية آنذاك، فقد سجّل الشيخ الطوسي في رجاله أسماء الواقفة من أصحاب الإمام الكاظم ، فكانوا قرابة الستين اسمًا، من أصل ما يقارب ثلاثمئة شخص أحصاهم الشيخ الطوسي أصحابًا للإمام، وذلك يعني أنّ نسبة الواقفة فيهم يعادل 20%، بينما ذكر الباحث الشيخ رياض الناصري في دراسته المهمّة عن الواقفة التي تقع في مجلّدين: أنّ عدد الواقفة يتجاوز المئة وأثبت أسماءهم والمصادر التي ترجمتهم[6].

      وإذا كان هذا عدد الشخصيات البارزة منهم، فإنّ عدد المتأثرين بهم من الناس العاديين لا بُدّ أن يكون أكثر، وتشير المصادر إلى تراجع عددٍ كبير ممن قالوا بالوقف عن رأيهم فيما بعد، وتسليمهم بإمامة الإمام الرضا .

  • صناعة الأدلة

     ومن أجل أن تكون الفكرة مقبولة فإنّها تحتاج إلى تنظير واصطناع أدلة، وهذا ما قام به زعماء الواقفة، فقد رووا عن الإمام جعفر الصادق أنّه قال في حقّ ابنه الإمام الكاظم: «هُوَ القائِمُ المَهْدِيّ فَاِنْ يُدَهْدِه رَأسَهُ عَلَيکُمْ مِنْ جَبَلٍ فَلا تُصَدِقُوا فَاِنَّهُ القائِمُ»[7].

   وأنّه قال: "صاحبكم قائمكم، ألا وهو سميّ صاحب التوراة"[8].

   وزعموا أنّ موسى بن جعفر حيّ لم يمت، وأنّه المهدي المنتظر، وقالوا إنّه دخل دار الرشيد [أي السجن] ولم يخرج منها وقد علمنا إمامته وشككنا في موته فلا نحكم في موته إلا بيقين[9].

      كما احتجّوا بأنه لو كان الإمام الكاظم قد مات، وكان ابنه عليّ الرضا الإمام من بعده، لوجب أن يحضر وفاته وأن يقوم بتغسيله؛ لأنّ الإمام لا يغسّله إلا الإمام. وحيث لم يشهد الناس حضور عليّ الرضا من المدينة إلى بغداد ليتولى تغسيل أبيه، فدّل ذلك على أنّ الميت لم يكن الإمام الكاظم، وأنّ ابنه ليس إماماً.

     هذه عيّنات من الأدلة التي اصطنعوها وافتعلوها لتمرير فكرتهم في أذهان الناس؛ لأنّ المتمصلحين من الفكرة هم القيادات، أمّا سائر الناس فيقبلونها بدافع ديني، لانطلاء الشبهة عليهم.

    إنّ هذا الحدث يُسلّط الضوء على قضية مهمة وهي خطورة تطويع الدين لخدمة توجّهات مصلحية، باختلاق حديث، أو تكلف تأويل، والإمكانية قائمة متوفرة؛ لأنّ النص الديني مفتوح على الإضافة والزيادة، عدا القرآن الكريم، الذي تتحمّل آياته - كما الأحاديث - مختلف التفسيرات والتأويلات، وقد ورد عن عليّ قوله: (إنّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ)[10].

    وقد رأينا عبر التاريخ كيف استغلّ الدين لخدمة مشاريع سياسية، ومصالح مالية، ومكاسب اجتماعية.

  •    تبرير السّياسات

كان بعض الخلفاء والحكام يستعين بفقهاء ومحدثين يبررون سياساته وتصرفاته الجائرة، ليقبلها الناس ولا يقاومونها ما دامت تستند إلى رأي شرعي.

ويذكر التاريخ أنّه لما ولي يزيد بن عبد الملك قال: سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز، فمكث كذلك أربعين ليلة، فأتي بأربعين شيخًا فشهدوا له أنه ما على الخلفاء من حساب ولا عذاب[11].

وقال منصور بن أبي مزاحم: سمعت الوزير أبا عبيد الله يقول: سألني المنصور: ما كان أشياخك الشاميون يقولون؟ قلت: أدركتهم يقولون: إنّ الخليفة إذا استخلف غفر له ما مضى من ذنوبه، فقال: إيْ والله، وما تأخّر"[12].

ونقل الشيخ ابن تيمية في منهاجه: وأمّا غالية الشاميين أتباع بني أمية فكانوا يقولون إنّ الله إذا استخلف خليفة تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات وربما قالوا إنه لا يحاسبه[13].

ونقرأ في سيرة الخليفة العباسي هارون الرشيد أنّه أعطى الأمان وصالح العلوي الثائر عليه يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ثم سجنه وأراد التخلص منه، لكنه كان قد أعطاه عهد أمان مكتوب، ويعرف الناس ذلك، فكيف يبرر نقضه للأمان وخيانته بالعهد؟

هنا دعا إليه القضاة والفقهاء ليجدوا له مخرجًا ليتحلّل من العهد الذي بذله ليحيى، ولينقض الأمان الذي منحه له، واستدعى يحيى من السجن ليحضر هذا المجلس الذي حضره الفقهاء، وفيهم: محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف القاضي، وخرج إليهم مسرور [خادم الرشيد] بالأمان، فبدأ محمد بن الحسن فنظر فيه فقال: هذا أمان مؤكّد لا حيلة فيه.

واستلبه أبو البختري فقال: هذا باطل منتقض، قد شقّ عصا الطاعة وسفك الدم فاقتله ودمه في عنقي.

فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له: اِذهب فقل له: خرقه إنْ كان باطلاً بيدك، فأخذ أبو البختري سكينًا وجعل يشقه[14]. ولم يتأخر الرشيد عن تصفية يحيى بعد استصدار هذه الفتوى.

  • استغلال الدين لكسب الجمهور

وفي اتّجاه آخر طالما استغلّ الدين من قبل بعض الجهات المنتمية للحالة الدينية، لكسب الجمهور، وتعزيز النفوذ الاجتماعي، وذلك باللعب على المشاعر ودغدغة الأحاسيس والعواطف الدينية الولائية.

فالجمهور المسلم محبّ لرسول الله وأهل بيته الاطهار وصحابته الأخيار ، هذه المحبة استغلّتها بعض التوجّهات لنشر ثقافة الغلو والمبالغة في الطقوس والمظاهر العاطفية، على حساب الارتباط الواعي بالقيادات الهادية، والأخذ بتعاليمهم والاقتداء بسيرتهم.

لقد رفض رسول الله أن تقدّس وتعظّم شخصيته باختلاق معاجز وفضائل وكرامات غير واقعية، فحين مات ولده إبراهيم، اتّفق كسوف الشمس في ذلك اليوم، فقال الناس كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله : إنّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم فصلّوا وادعوا الله[15].

وفي الوسائل عن عليّ بن عبدالله قال: سمعت أبا الحسن موسى (عليه السلام) يقول: إنّه لما قبض إبراهيم بن رسول الله انكسفت الشمس، فقال الناس: انكسفت الشمس لفقد ابن رسول الله ، فصعد رسول الله المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيّها الناس، إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله يجريان بأمره، مطيعان له، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا انكسفتا أو واحدة منهما فصلّوا، ثم نزل فصلى بالناس صلاة الكسوف[16].

لكن ما حدث في العصر الأموي، كان اختلاق الأحاديث، واصطناع الروايات والقصص في فضائل الصحابة مقابل فضائل أمير المؤمنين عليّ . كما نشأت حركة الغلوّ في الإمام عليّ الذي واجهها بقوة وحزم، وقال : هَلَكَ فِيَّ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ غَالٍ، وَمُبْغِضٌ قَالٍ[17]. فالمغالي هالك وإنْ بالغ في إظهار المحبّة والولاء لعليّ، تمامًا كما أنّ من يبغضه مستحق للهلاك والغضب الإلهي.

وتوالت كلمات ومواقف أئمة أهل البيت الرافضة للغلوّ والمحذّرة منه، كالقول المروي عن الإمام الصادق : اِحذَرُوا على شَبابِكُمُ الغُلاةَ لا يُفسِدُونَهُم؛ فإنَّ الغُلاةَ شَرُّ خَلقِ اللّه، ثم قال : إلينا يرجع الغالي فلا نقبله، وبنا يلحق المقصّر فنقبله[18].

وهنا يعتبر الإمام أنّ الغلوّ فيهم أخطر وأسوأ من التقصير في حقّهم.

إنّ لائمة أهل البيت ميزات وفضائل حقيقية، تتمثل فيما ورد في شأنهم من آي الذكر الحكيم، والأحاديث الثابتة عن رسول الله ، وما انفردوا به من كفاءة علمية لا تضاهى، وسيرة مشرقة لا غبار عليها، وكرامات ظاهرة شهدتها الأمة. فهم ليسوا بحاجة لأنْ تختلق لهم معاجز أسطورية.

كما أنّ ما واجهوا من حيف وجور، وما تحمّلوا من مصائب ومعاناة واقعية في حياتهم تكفي لإبراز ظلامتهم وصمودهم واستقامتهم، وتأكيد التفاعل العاطفي لجمهور الأمة تجاههم.

أمّا التوسّل بالكذب، والاعتماد على روايات غير معتبرة، وقصص مختلقة، والمبالغة في الطقوس والمظاهر غير اللائقة، فذلك ما لا نعتقد برضا أهل البيت به، ولا يحقق ما أمروا به من جذب مودّة الناس إليهم وإلى شيعتهم، كما في الحديث المرويّ عن الإمام الصادق : رحم الله عبدا استجرّ مودّة الناس إلى نفسه وإلينا"[19].

  • التصدّي لظاهرة المتاجرة بأهل البيت

وقد تصدّى علماء الشيعة المحققون والمخلصون لمواجهة ظاهرة المتاجرة بفضائل ومصائب أهل البيت، عبر الأساليب غير المنضبطة بضوابط الشرع والعقل.

ومن تلك الجهود المهمّة في مواجهة هذه الظاهرة ما كتبه المحدّث الخبير الشيخ حسين النوري (توفي 1320هـ) صاحب مستدرك الوسائل المصدر الحديثي المعروف، فقد ألّف كتابًا بعنوان (اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر) ركز فيه على شرطين للخطابة الحسينية، هما: الإخلاص والصدق.

وقد حذّر الشيخ النوري من المتاجرة بذكر أهل البيت لنيل المكاسب المادية والنفوذ الاجتماعي، مستشهدًا بعدد كبير من الأحاديث والروايات.

كما تحدّث بالتفصيل عن خطورة التساهل في نقل الروايات والأخبار من مصادر غير معتبرة، مشيرًا إلى بعض تلك المصادر التي ينقل منها بعض الخطباء فضائل ومصائب أهل البيت ، وفيها أكاذيب وأساطير لا يقبلها العقل.

ومنها كتاب (محرق القلوب) للشيخ مهدي النراقي الذي قال عنه أنه من أعيان علماء الدهر، واعترف له عظماء الدين بالفضل وعلوّ المقام في العلم، لكنه يورد في كتابه هذا مطالب منكرة تجعل الناظر البصير يتعجّب من كتابة هكذا عالم لهكذا مطالب[20]!

ومنها كتاب (مقتل الحسين) المنسوب لأبي مخنف لوط بن يحيى وهو من كبار المحدّثين، ومعتمد أرباب السير والتواريخ، و(مقتله) في نهاية الاعتبار - على حدّ تعبيره - إلا أنّ نسخته الأصلية مفقودة، والموجود منه نسخة محرّفة، تشتمل على بعض المطالب المنكرة المخالفة لأصول المذهب، ولا بُدّ أن الأعادي والجهّال هم الذين أدخلوا تلك المطالب في ذلك الكتاب لأجل بعض الأغراض الفاسدة[21].

ومنها كتاب (اللهوف) للسيّد ابن طاووس وهو عالم جليل القدر عظيم المنزلة وصاحب كرامات باهرة ومناقب فاخرة - على حدّ وصفه - لكنه ألّف هذا الكتاب في ريعان شبابه وأوائل عمره، وهذا كافٍ في وضوح عدم إتقانه واستحكامه مثل سائر مؤلفاته الجليلة الأخرى[22].

ومنها كتاب (أسرار الشهادة) للفاضل الدربندي، وهو من العلماء المبرزين والأفاضل المعروفين، وليس لإخلاصه لخامس آل العبا حدّ ولا نظير، إلا أنّ هذا الكتاب ليس له أيّ وقع ولا اعتبار لدى علماء هذا الفنّ، وجهابذة الحديث والسير، بل إنّ الأخذ عنه والاعتماد عليه، يدلّ على ضعف الناقل، وقلة بصيرته في الأمور[23].

ومنها كتاب (المنتخب) للشيخ الطريحي المشتمل على الموهنات[24].

وحين ينتقد الشيخ النوري هذه الكتب فإنه يشيد بمؤلفيها لإرساء منهج النقد والتمحيص العلمي، بعيدًا عن الشخصنة والانبهار بشخصية مؤلّف الكتاب.

ويشير أخيرًا إلى أضرار وخطورة نقل الأكاذيب والأساطير بقوله: (والنتيجة الظاهرة لذلك وثمرته الواضحة إدخال الوهن العظيم على الدين ومذهب الجعفرية وتقديم أسباب السخرية والاستهزاء والضحك للمخالفين، حيث يقيسون أحاديث ومنقولات الإمامية على هذه الأخبار الموهونة، والقصص الكاذبة، حتى إنّهم كتبوا في كتبهم أنّ الشيعة بيت الكذب. وإن كان هناك من ينكر هذا القول فإنه يكفيه أن يراجع المقتل المعروف[25] فضلاً عن نظائره ليرتفع إنكاره ويثبت عنده ذلك)[26].

ومع أنّ الشيخ النوري نفسه محدّث يؤخذ عليه في سائر كتبه نقل الأحاديث الضعيفة، ففي بعض كتاباته قد نجد موارد شبيهة بما ينتقده في الكتب المذكورة. إلا أنّه في هذا الكتاب مارس دور الباحث الناقد والفقيه المسؤول، وليس دور المحدّث الجامع للروايات والأخبار.

فجاء كتابه بحثًا علميًّا رائعًا ينطلق من الإخلاص للدين والعلم، والغيرة على المذهب، وعلى سمعة أهل البيت وشيعتهم.

وكما قال عنه الشهيد الشيخ مرتضى المطهري: رغم أنّه كتاب صغير إلا أنه ممتاز للغاية.. وأنا لا أتصور أنّ هناك كتابًا فصل القول حول الكذب وأنواعه كما نرى في هذا الكتاب، وربما لا يوجد لهذا الكتاب نظير في العالم[27].

وحريٌّ بكلّ خطيب أو ناشط في ميدان الشعائر الدينية، أن يقرأ هذا الكتاب، بل ينبغي لكلّ شيعي أن يطّلع عليه.

إنّه لا ضمانة لحماية الدين من التلاعب واستغلاله لخدمة التوجّهات المصلحية، إلا بتصدّي العلماء الواعين، وبارتقاء وعي الجمهور.

 

* حديث الجمعة 18 صفر 1438ﻫ الموافق 18 نوفمبر 2016م

[1] فرق الشيعة، النوبختي، ص80.
[2] بحار الأنوار، العلامة المجلسي،ج٤٩ ص٢٦٧.
[3] علل الشرائع، الشيخ الصدوق، ج١ ص235، حديث1.
[4] عيون أخبار الرضا ، الشيخ الصدوق، ج٢ ص١٠٤، حديث 3.
[5] إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ج2، ص43.
[6] الواقفة، رياض محمد نجيب الناصري، ج1 ص214.
[7] فرق الشيعة، النوبختي، ج1 ص80.
[8] المٍلل والنحل لأبي الفتح الشهرستاني، ج1، ص197.
[9] الفرق بين الفرق، البغدادي، ص63.
[10] نهج البلاغة، وصية رقم 77.
[11] تاريخ الإسلام، الذهبي، ج٧ ص٢٨٠.
[12] سير أعلام النبلاء، الذهبي، ج ٦ ص٧٦.
[13] منهاج السنة، ج2، ص228.
[14] مقاتل الطالبيين، ص401.
[15] صحيح البخاري، باب الصلاة في كسوف الشمس، حديث996.
[16] وسائل الشيعة، ج7، ص485، حديث10، باب وجوبها لكسوف الشمس وخسوف القمر.
[17] عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الواسطي، ص٥١١.
[18] الأمالي، الشيخ الطوسي، ص٦٥٠، حديث12.
[19] بحار الأنوار، ج٢ ص٧٧، حديث 62.
[20] اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر، ص196.
[21] نفسه، ص 187.
[22] نفسه، ص 182.
[23] نفسه، ص 201.
[24] نفسه، ص 228.
[25] لعله إشارة إلى أسرار الشهادة كما يظهر من العبارات اللاحقة. هامش الكتاب.
[26] نفسه، ص 229.
[27] الملحمة الحسينية، ج1، ص19.