الأحياء الجديدة وحسن الجوار

الشيخ حسن الصفار *

الخطبة الأولى:  الأحياء الجديدة وحسن الجوار

تحض تعاليم الإسلام على الاهتمام بمسألة الجار وحقوقه، ذلك لأن التجاور السكني يمثل أرضية وباعثاً إلى الوئام النفسي والتعاون الاجتماعي. فحينما يعيش الناس متجاورين كما هي طبيعة حياتهم، فإن هذا التجاور السكني، ينبغي أن ينعكس عنه نوع من التقارب النفسي، والتعاون الحياتي الاجتماعي، فهذا من مصلحة الجميع، وهو علامة حيوية في أي تجمع. أما إذا كان التجاور مجرد تجاور مادي دون أي انعكاس اجتماعي فهذا يعني فقدان الحيوية والحالة الإنسانية الحضارية التي ينبغي أن تكون بين الناس، وهو خلاف لتعاليم الدين الحنيف في مسألة الجيرة.

إن طبيعة الحياة تقتضي أن تعيش مجموعة من الناس في منطقة واحدة تكون محلاً لسكناهم وإقامتهم. حيث لا يرتاح الإنسان للعيش بمفرده في منطقة معزولة ونائية، حتى لو توفرت له كل الخدمات، علاوة على أن تداخل مصالح الناس يفرض عليهم التقارب والتجاور في مساكنهم، فالإنسان يحتاج إلى أخيه الإنسان في سائر شؤون حياته، ولذلك يعيش الناس كمجموعات يقضي بعضهم حاجة بعض من خلال اختلاف مهامهم ومهنهم. من هنا تكونت الأحياء والقرى والمدن، حتى البدو في الصحراء يلجؤون إلى العيش ضمن مضارب تجتمع حول المراعي ومنابع المياه. ولقد كان التجاور السكني في الماضي يقوم على أسس قبلية وعمق تاريخي، فكل قبيلة تسكن في حي واحد أو منطقة واحدة، كما كان له عمق تاريخي يعتني فيه الفرد بالحفاظ على جيرانه الذين كانوا هم أنفسهم جيران أبيه وجده. لكن تطور الحياة ونشوء المجتمعات الصناعية والمدن الحديثة وتنوع اختيارات البشر الوظيفية قد تضطر الإنسان إلى الانتقال من منطقة إلى أخرى ليعيش في نهاية المطاف ضمن منطقة سكنية إلى جانب سكان آخرين لا يمتون إليه بأدنى صلة. لقد بات التجاور اليوم في الأعم الأغلب غير مستند إلى العمق العائلي القبلي ولا التاريخي، وإنما فرضته ظروف الحياة ع
لى الناس ودفعتهم للسكنى في حي واحد بل في عمارة سكنية واحدة إلى جانب بعضهم بعضاً.

من هنا يُعد تزايد واتساع حالة التواصل والتفاعل النفسي بين الجيران مؤشراً على حالة من الشهامة والحيوية. وعلى النقيض من ذلك إذا انخفضت عندهم هذه الدرجة فإن التفاعل الحياتي ينخفض. ورد عن أمير المؤمنين في حديثه عن أهل القبور من الأمم السالفة حيث يصفهم قائلاً: (جيران لا يتأنسون وأحباء لا يتزاورون)[1] . فقبور الموتى متلاصقة ولكن لأنهم موتى فهم لا يتزاورون ولا يستأنسون ببعضهم بعضاً، وكذلك الأمر بالنسبة للناس الأحياء، فكلما ارتفعت عندهم حالة التواصل والتفاعل النفسي فذلك يعني مستوى متقدماً من الحياة والحيوية، أما إذا انخفضت فإن التفاعل الحياتي ينخفض عندهم.

لقد وردت في مسألة حق الجار نصوص وأحاديث كثيرة تؤكد على أهمية بالغة لهذا الأمر. فقد جاء في الآية الكريمة أن الله تعالى بعد أن يأمر بالإحسان إلى الوالدين وذوي القربى والفقراء والمحتاجين في المجتمع يأمر بعدها بالإحسان للجار، قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ، واختلف المفسرون في معنى الجار الجنب والجار ذي القربى، فقال بعضهم قد يكون الجار من أسرتك وعائلتك، وقد يكون من غير ذلك، فهذا معنى الجار ذي القربى، أما الجار الجنب فهو الجار غير القريب منك نسباً. وقال بعضهم لعل المقصود من الجار ذي القربى القريب منك في الدين أي الذي يتوافق معك دينياً أو مذهبياً، أما الجنب فهو الذي لا يوافقك في الدين ولكن مع ذلك أنت مأمور بالإحسان إليه.

نحن بحاجة إلى استعادة تعاليم الدين في الحث على حسن الجوار. ذلك لأن مجتمعاتنا باتت تعيش جواراً حديثاً، أو جواراً مصطنعاً إن جاز التعبير، بخلاف ما جرت عليه العادة في الماضي، وعلى النقيض مما يجري الآن حين كان الناس يتجاورون لعقود من الزمن، إذ نتيجة لظروف العصر بات الموظفون والمبتعثون للدراسة يلجئون للسكنى خارج مدنهم وقراهم ليصبح لديهم هناك جيران جدد. ولو أتيحت الفرصة للمرء أن يختار جيرانه الصالحين فسيكون ذلك هو الأفضل، فإن جار السوء مشكلة، كما يقول أمير المؤمنين : (جار السوء أعظم الضراء وأشد البلاء)[2] ، غير أنه من غير الخفي، أن ظروف الحياة الراهنة قد لا تسمح بذلك غالباً، فقد بات الحصول على سكن خاص مهمة شاقة، وعليه من غير المتصور أن يكون لدى الكثيرين في هذه الحالة ترف المفاضلة بين مجاوريهم، فالخيارات أمام الناس باتت ضيقة جداً مع انعدام توفر الأراضي، وارتفاع الأسعار، الذي طال الأراضي وايجارات الشقق السكنية على السواء، فقد بات الناس أمام أزمة سكن حقيقية، فلا مجال عندها للاختيار.

لقد وضع الإسلام جملة معايير دينية وضوابط أخلاقية للعلاقة مع الجيران قوامها التعامل الحسن معهم. فقد ورد عن النبي : (أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمنا)[3] . ومغزى ذلك أن الإحسان للجار هو من أبرز مظاهر الإيمان وعليه فهناك ثمة دلالة ضمنية تشير إلى أن من لا يحسن مجاروة من جاوره فهو ليس بمؤمن، أو على الأقل ناقص الإيمان، أو ليس صادق الإيمان. وفي حديث آخر عنه : (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره)[4] . وقيل لرسول الله :  يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها قال: هي في النار[5] . وورد عنه كذلك القول: (من آذى جاره حرم الله عليه ريح الجنة)[5] .  كما ورد عن أمير المؤمنين قوله في وصيته الأخيرة: (الله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم ما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم)[6] . وعن الإمام الصادق : ( المؤمن من أمن جاره بوائقه)[7]  يعني من أمن ظلمه واعتداءاته.

إن على المرء أن يذهب بعيداً في مراعاة جيرانه وتجنب أي قدر من الأذى والاعتداء أو الإساءة  والإزعاج لهم. وعلينا هنا أن نتوقف مطولاً عند نقطة مهمة، فبعض الناس يتصور أنه يعمل عملاً صالحاً بإقامة تلاوة القرآن الكريم أو عقد مجلس عزاء في منزله، فيستخدم لأجل ذلك أحدث مكبرات الصوت ويطلق العنان للصوت الصادر عن المجلس، هنا ينبغي أن يراعي المرء على نحو بالغ مدى ارتياح أو انزعاج جيرانه لهذا الأمر، فإذا كانوا مرتاحين فأهلاً وسهلاً فله الأجر والثواب بإشاعته الأجواء الدينية في محيطه، ولكن إذا كان واحد من الجيران لسبب أو لآخر يشعر بانزعاج من مكبرات الصوت، فعلى صاحب المجلس الديني أن يعلم حينئذ أنه لن يحرم الثواب وحسب، وإنما قد يتحمل وزر أذى الجار، فهو بذلك يقترف حراماً يعاقب عليه من قبل الله عز وجل. ويكفي في هذا الصدد ما ورد عن رسول لله (من آذى جاره حرم الله عليه ريح الجنة).

علينا أن نضع بعين الاعتبار أن الجوار ليس خاصاً بأصحاب المنازل فقط. وإنما على القائمين على المساجد والحسينيات أن يراعوا أيضاً هذا الأمر، فجيران المسجد لهم حق الجوار، وينبغي أن نشعرهم بأن جوارهم هذا مصدر خير وسعادة لهم، وليس وبالاً عليهم، فهذا ما ينبغي أن نحذر منه.

هناك في الشريعة نصوص كثيرة واردة في حسن الجوار وكف الأذى عن الجار، والتعاون بين الجيران، نكتفي هنا بالتأكيد على بعض مضامينها:

أولاً: ينبغي أن يبادر المرء للتعرف على جيرانه والتواصل معهم. وخاصة إذا كانوا من عوائل ومناطق أخرى لم تكن تربطه بهم سابق علاقة أو معرفة، فعليه حينئذ أن يبادر للتواصل معهم حتى وإن اختلفوا معه في النسب والدين والعقيدة، ذلك لأن النصوص التي تتحدث عن حسن الجوار لا تشترط ذلك بالدين ولا المذهب، بل ورد في الحديث (أحسن جوار من جاورك)[8] ، دون تحديد لدين ومذهب ذلك الجار. وعطفاً على ذلك فقد فهم المفسرون مصطلح "الجار ذي القربى" الوارد في الآية الشريفة أنه القريب من دينك، فيما "الجار الجنب" فهو من لا يرتبط معك في دين وكلاهما مطلوب منك الإحسان اليه. ان الإسلام لا يقرر أن تكون المجتمعات نقية خالصة، بحيث يقطن أهل كل ملة أو مذهب معين في حي خاص بهم، ولذلك كان المسلمون منذ صدر الاسلام يجاورون غير المسلمين. وورد في هذا السياق أن عبدالله بن عباس أمر غلاماً له أن يذبح شاة، ثم قال له، قبل أن تسلخها لا تنس جارنا اليهودي. وكرر عليه ذلك، فقال الغلام: مالك تكرر علي؟ قال: إن رسول الله ما زال يوصينا بالجار حتى ظننا أنه سيورثه.

من هنا فلا ضرورة لأن يكون هناك نقاء خالص للمجتمع بحيث يكون بأجمعه على دين أو مذهب واحد. قد يبحث المرء دون شك عمن ينسجم معهم، لكن هذا ليس أمراً الزامياً بأي حال. بل على العكس من ذلك فقد ينطوي التنوع على مكاسب قد لا ترد في الحسبان، من قبيل التعارف وتبادل الثقة بين المختلفين عقدياً، ولذلك لابد للإنسان أن يبادر للتعرف على جيرانه، فعلى ذلك المبتعث للدراسة في بلاد غريبة أن يبادر إلى التعرف على جيرانه، مهما كان دينهم ومذهبهم، فلتقدم لهم أنموذجاً لدينك ومذهبك، حتى يعرف الناس محاسن دينك ومذهبك، فمن الخطأ اللوذ بالانغلاق والانكفاء على الذات.

ثانياً: ينبغي على الناس في الاحياء الجديدة أن يكثفوا التعاون فيما بينهم عبر تأسيس مجالس الأحياء. ففي ذلك فوائد جمة لجهة ايجاد التفاعل النفسي بين الأهالي علاوة على حل مشاكل الحي، والسعي لتوفير الخدمات، والالتفاف حول المسجد والحسينية والعالم الموجود في المنطقة.

لقد فصلت النصوص الدينية في مسألة حدود الجوار وقدرتها إلى أربعين دار. إذ يظن بعض الناس أن مسألة الجيرة مقتصرة على أهل المنزل الملاصق لبيتهم فقط، وهذا غير دقيق، فقد ورد عن النبي ( كل أربعين داراً جيران من بين يدين ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله)[9] ، وعن أمير المؤمنين (الجوار أربعون داراً من أربعة جوانبها)[10] ، فجميعهم تنطبق عليهم احاديث حسن الجوار.

إن علينا أن نهتم بهذا الجانب حتى نستفيد من هذه التعليمات، وحتى يكون المجتمع متعاوناً متماسكاً، يقف الناس إلى جانب بعضهم بعضاً، فذلك بالتأكيد ما ينعكس على سلامة نفوسهم وحسن تسيير أمورهم.

نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من المتجاورين بخير في هذه الدنيا ومن جيران الله وأوليائه في الآخرة.

 

الخطبة الثانية: الصحة النفسية مسؤولية الدولة والمجتمع

هناك علاقة متبادلة بين صحة الجسم وصحة النفس، فمرض أحدهما يؤثر في الآخر، وصحة أحدهما تنفع الآخر. لكننا إذا أردنا معرفة أيهما أشد خطراً على الإنسان فستكون تلك أمراض النفس دون شك؛ لأن أمراض النفس قد تدفع الإنسان إلى المشاكل وارتكاب الأخطاء الكبيرة، بينما أمراض الجسم يمكن علاجها وتحملها. إن الأمر الدارج هو أن يهتم الناس بصحة أجسامهم وهو أمر مطلوب؛ لأن الإنسان مسؤول أمام الله عن جسمه؛ ولأنه لا يستمتع بحياته إن لم يحافظ على جسمه من الأمراض والأسقام، كما تهتم الحكومات والمجتمعات بكل ما يرتبط بالصحة الجسمية على نحو أو آخر، لكن في مقابل ذلك غالباً ما تكون هناك غفلة عن الصحة النفسية، فالإنسان كما هو جسم له أعضاء وأجهزة، كذلك هو نفس فيها أحاسيس ومشاعر وعواطف، وعليه ينبغي الاهتمام بالحالة النفسية في المجتمعات أكثر من الحالة الجسمية.

إن من تعريفات مصطلح الصحة النفسية هو أن يعيش الإنسان حالة من الرضا والتوافق مع نفسه ومع المحيط الذي يعيش فيه والأوضاع التي يحيا من خلالها. فمتى ما كانت لدى المرء درجة عالية من التوافق فسيكون وضعه النفسي غالباً في صحة جيدة، وكلما انخفضت تدهورت معها الصحة النفسية. يقول أمير المؤمنين (ألا وإن من أشد البلاء الفاقة، وأشد من الفاقة مرض البدن، وأشد من مرض البدن مرض القلب)[11] ، فالبلاء الشديد وفقاً لأمير المؤمنين يتدرج بين الفقر وسوء الوضع الاقتصادي، ثم يتصاعد إلى مرض الجسم، حتى يصل إلى مرض القلب، ويمكننا هنا أن نفهم مصطلح مرض القلب بأنها الأمراض الداخلية التي تضرب نفسية الإنسان فهي بذلك أشد فتكاً من سابقيها.

بات الإنسان في العصر الحديث يكابد الأمراض النفسية بالنظر لتصاعد حجم التطلعات لديه وما يوازي ذلك من تحديات كبيرة. إن طوفان الاهتمامات المادية يجعل الإنسان في كثير من الأحيان يقف مأزومًا أمام تطلعاته التي لا تتحقق، وما يتبع ذلك من تداعيات ومشاكل. من هنا تتولد الأمراض والمشاكل النفسية عند الإنسان. لقد باتت هذه الأمراض في العصر الراهن وباءً عاماً يعاني منه كثير من البشر، فلهذه الأمراض النفسية يعود السبب في تفشي حالات الاكتئاب وتصاعد حالات الانتحار، وفي جديد هذا الأمر ما نشرته الصحف مؤخراً من أن واحداً من كل أربعة يابانيين قد فكر في الانتحار، أي ما يعادل ربع المجتمع الياباني!، علماً بأن الأوضاع الاقتصادية لديهم ممتازة، لكنها الضغوط والمشاكل الكثيرة المصاحبة للجفاف والجفاء الروحي، فهذه تنعكس وتتفاعل مع الأوضاع المادية، إضافة إلى ضياع الهدفية في حياة الإنسان.

أما حالات الاكتئاب النفسي فتشير إحصاءات منظمة الصحة العالمية الحديثة إلى تصاعد مضطرد في الأرقام. فقبل أيام ذكرت المنظمة أن عدد المصابين بالأمراض النفسية زادوا على 500 مليون مريض، منهم 150 مليون مريض يعانون من مرض الاكتئاب، فيما يعاني 380 مليون من انفصام الشخصية، إلى جانب 90 مليون يعانون من تعاطي المخدرات، وتوقع خبراء بالمنظمة أن يحتل مرض الاكتئاب المرتبة الثانية عالمياً بحلول عام 2020م. وذكرت تقارير المنظمة أن مرض الاكتئاب أصبح من الأمراض السائدة في القرن الحادي والعشرين، وأن حوالي 121 مليون نسمة يعانون من الاكتئاب في العالم. وبحسب التقارير الدولية والمحلية يتمركز مرض الاكتئاب في بلدنا عند النساء أكثر منه عند الرجال، فنسبة مرض الاكتئاب عند الإناث تشكل من 15 إلى 25 % فيما بلغت عند الذكور من 10 إلى 15 %.

وتكشف الاحصاءات الرسمية المحلية عن مدى خطورة الأوضاع على مستوى الصحة النفسية في المجتمع. فقد كشفت وزارة الصحة في المملكة عن ارتفاع مضطرد في عدد مراجعي عيادات الصحة النفسية حتى بلغ 439 ألف مراجع، وبلغ إجمالي الذين يرقدون على أسرة المستشفيات نحو 187 ألف مريض نفسي. وهذه الأرقام تعد كبيرة قياساً على واقعنا المحلي، مع ملاحظة أن الناس في مجتمعنا لا يعترفون غالباً بالأمراض النفسية، ولذلك يمتنع قسم كبير من المرضى النفسانيين عن مراجعة المستشفيات، ولا يتلقون العلاج المناسب، وهذه مسألة ينبغي أن يثقف الناس حولها.

إن بلادنا تعاني نقصاً وقصوراً كبيراً في جانب المستشفيات النفسية. فالمستشفيات، تعد قليلة جداً، وبحسب التقارير الجديدة لم يحصل أي تطور على هذا الصعيد منذ أكثر من 20 سنة. وقد أشار المؤتمر العالمي الثامن للطب النفسي الذي نظمته المنظمة الصحية للطب النفسي في جدة بتاريخ 17 أبريل 2012م إلى أن عدد المستشفيات النفسية في المملكة لا تزال قليلة ومحدودة، وأنه لم يحصل تقدم ملموس منذ عشرين عاماً، سوءاً كان على مستوى التجهيزات الطبية، أو الكوادر الطبية أو توفير الأسرّة، وهذا خلل وضعف كبير جدًا. الحمد لله بلدنا فيها خير كثير، وأرقام الميزانية العامة للدولة بلغت أرقاماً فلكية، وخاصة الميزانية المعتمدة لوزارة الصحة، ولذلك فالمواطنون يريدون أن يروا أثر ذلك على صعيد العناية بالصحة النفسية للمجتمع، فلا مبرر لأن نعيش هذه الأزمة وهذا النقص.

إننا في هذا المجال نريد أن نؤكد باختصار على الامور التالية:

أولا: ينبغي أن نهتم بأمور الصحة النفسية وأن نهتم بالأمراض النفسية التي بدأت تسود وتنتشر في مجتمعاتنا. فمن المهم أن نولي العناية والاهتمام بالأسباب والجذور لتلك المشاكل، ومن أهمها الأزمات الحياتية التي يعيشها الناس، فكثير من الناس يعانون من مشاكل حياتية كأزمات السكن، والوظيفة والحياة المناسبة، هذه الأزمات تمثل باعثاً أساساً للأمراض النفسية وحصول حالة الاحباط واليأس في الكثير من الأحيان.

ثانياً: ينبغي التأكيد على دور العائلة في احتضان الأبناء. فبعض الآباء يولون اهتماماً بالغاً بالصحة الجسمية للأبناء فيسارعون إلى المستشفى إذا رأوا عارضاً صحياً عند أولادهم، لكنهم في مقابل ذلك لا يهتمون كثيراً للحالة النفسية للطفل، وهذا خلل كبير، إذ ينبغي أن تتوفر للأولاد الأجواء المناسبة للصحة النفسية. ولهذا نجد الإسلام يشدد على الاهتمام برعاية الصغار، كما ورد في الرواية (من كان له صبي فليتصابى له)[12] ، (دع ابنك يلعب سبع سنين)[13]  وغيرها، ذلك لأن هذا السلوك له دور حيوي في تنمية الأطفال ورعاية نفوسهم، وتنمية مهارات التفاعل مع المجتمع والمحيط. ولا بأس أن نشير هنا إلى أن استغراق الأطفال في اللعب بالألعاب الإلكترونية فقط، يعد أمراً خطيراً كما تؤكد الدراسات، فمن الضار بالطفل إن يتجاوز الحد الطبيعي في الألعاب الالكترونية، فهو بذلك يفقد الكثير من مهارات التفاعل والتعامل مع محيطه، كما يفقد الكثير من الراحة والصحة النفسية. ولهذا ينبغي تشجيع الأبناء على الرياضة والألعاب الحركية ليتفاعلوا  مع من حولهم.

كما ينبغي الانفتاح على مشاكل الأبناء. فالمشاكل النفسية في صفوف البنات خاصة تعد مضاعفة كما تشير التقارير، فقد ورد في تقرير علمي أن نسبة إصابة النساء السعوديات بالاكتئاب تجاوزت النسب في الدول الأخرى، حيث بينت الدراسات أنه في حين كان عدد الرجال المصابين 33 مصاباً نفسياً فإن النساء يفوقونهم بـ 66 حالة. وفسرت التقارير ذلك بأن المرأة في مجتمعاتنا تتعرض لكثير من الضغوط، حتى ينعدم لديها الشعور بأنها إنسان من الدرجة الأولى مثل أخيها الذكر، وإنما هي من الدرجة الثانية، وفي ذلك باعث أساس لانتشار الأمراض النفسية.

الثالث: الحاجة إلى النشاط والتضامن الاجتماعي لمعالجة الأمراض النفسية. إن وجود مؤسسات وتضامن اجتماعي يساعد الناس كثيراً على تجاوز مشاكلهم، فوجود مشاريع على غرار الهاتف الاستشاري الموجود في بعض الجمعيات الخيرية يعد عاملاً مساعداً في تجاوز المشاكل التي يعاني منها الكثير من الأفراد وعلى غرار ذلك لجان اصلاح ذات البين.

وأخيراً لا بد أن نوجه الخطاب لكل انسان أن يهتم بالجانب الروحي في حياته. فالإيمان يضاعف القوى النفسية لدى الأفراد، فإذا ما انفتح المرء على دينه بشكل جيد، فإنه يصبح بذلك أقوى في مواجهة المشاكل والتحديات، من خلال  التوكل على الله، والرضا بقضاء الله وقدره. إن على المرء أن لا يستسلم للإحباط واليأس عند مواجهة التحديات، حتى وإن بذل كل جهوده لتجاوزها دون أن ينجح. هذا ما تؤكد عليه النصوص والأحاديث، فقد ورد عن الإمام الصادق (إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل)[14] ، وعنه (قال الله عز وجل: عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له فليرض بقضائي وليصبر على بلائي وليشكر نعمائي أكتبه من الصديقين عندي)[15] .

ينبغي على المرء أن يسعى لمواجهة المشاكل، وأن يقبل في الوقت ذاته بالقضاء والقدر. إن هناك حوادث خارجة عن الإرادة والمعالجة كالكوارث والموت وما شابه، فلا يصح معها أن يكون الانسان جزوعاً، وعلى غرار ذلك ما يعترض المرء من صدمات عاطفية قاسية من قبيل عدم القدرة على الارتباط بشريك الحياة لعوامل خارجة عن الإرادة سواء بسبب الأهل أو القانون وما أشبه، سيان كان ذلك بحق أو بغير حق، فلا ينبغي بأي حال أن يكون هذا آخر المطاف، وسبباً للإصابة بالإحباط واليأس. على الانسان أن يسعى لتحقيق تطلعاته لا أن يموت من أجلها، فما كل ما يتمنى المرء يدركه، عندها لا مفر من أن يسلم المرء بالقضاء والقدر .

خطبة الجمعة بتاريخ 13 جمادى الثانية 1433هـ الموافق6 ابريل2012م.
[1]  بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - ص٤٣٣
[2]  غرر الحكم ودرر الكلم
[3]  أمالي الصدوق: ١٦٨ / ١٣.
[4]  مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج ١٢ - ص٨١
[5]  كنز العمال - المتقي الهندي - ج ٩ - ص١٨٧
[6]  من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج ٤ - ص١٣
[7]  نهج البلاغة
[8]  مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج ٨ - ص٤٢٣
[9]  كنز العمال - المتقي الهندي - ج ١٥ - ص٨٥١
[10]  الكافي: ج ٢ / ص ٦٦٩
[11]  الخصال - الشيخ الصدوق - ص٥٤٤.
[12]  نهج البلاغة
[13]  كنز العمال - المتقي الهندي - ج ١٦ - ص٤٥٧
[14]  وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج ١٥ - ص١٩٣
[15]  تنبيه الخواطر: 2 / 184.
[16]  الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - ص٦١