حوار مجلة "البصائر" مع الشيخ الصفار

الحراك الجماهيري.. قراءة في مستقبل الإصلاح والتغيير في الأمة

 

تحت عنوان: الحراك الجماهيري.. قراءة في مستقبل الإصلاح والتغيير في الأمة، أجرت مجلة البصائر في عددها رقم (48) السنة الثانية والعشرون 1432هـ -2011م، مقابلة مع سماحة الشيخ حسن الصفار، هذا نصها:

تواكب الأمة الإسلامية اليوم هبوب رياح التغيير والإصلاح السياسي والاجتماعي، تلك الرياح التي بدأت دوامتها من (سيدي بوعزيزي) في تونس، فما لبثت أن اجتاحت مصر، ووصلت إلى ليبيا والبحرين واليمن وسوريا والأردن، وقد آتت بعض ثمارها في مناطق مثل تونس ومصر، ولا زالت تصارع من أجل النجاح في مناطق أخرى.

والمثقف ـ الديني وغير الديني ـ يرى نفسه إزاء هذه التغيرات أمام مسؤولية عظيمة تتطلب منه البوح لا الصمت، والفعل لا السكون، والموقف لا التفرّج، وأن يُغني هذه المسيرة بفكره: قراءةً واستلهاماً وتوجيهاً ومشاركةً فاعلةً دينامية، ويرى نفسه أمام لحظة تاريخية هامة، وحدثاً مصيرياً رائداً، ربما لم تشهده الأمة منذ قرون في حياتها السياسية والاجتماعية أو في اجتماعها السياسي، فهو يشهد قيام حركة شعبية تغييرية استفاقت لتطيح بالكثير من العروش التي عُبّر عنها (بالراسخة)، و(المستقرة)، وتسعى لرسم خارطة جديدة في القيم والفكر والفعل معاً، والإسهام في عملية التنظير والتطبيق على حدّ سواء، في مشهد يحكي سأمها من تلك الدساتير الباردة التي قضت على الأمة بالسكون والخدر والتخلف، ويحكي سأمها من تلك التطبيقات الديكتاتورية التي كممت حرية الفكر وحرية التعبير وحرية الفعل.

وهكذا استفاقت في الأمة حركة إصلاحية تغييرية يُجمع المحللون على أنها تميّزت بسمات منها:

 التحرك الشعبي الجماهيري بدلاً من النخبوي والفئوي.

 سيادة الطابع الشبابي، والتحلي بمواصفات التغيير الناجح بدءًا من الإصرار على الوصول إلى الهدف، ومروراً بامتلاك الرؤية والحكمة والشجاعة والسلم، وانتهاء بالمشاركة في تشكيل المنظومة القيمية والمعرفة للدستور الجديد،  والمساهمة الفعلية في قيادة دفة السياسة والحكم.

ومن ثم آثرنا ـ في مجلة البصائر ـ، ونحن نعيش هذه الأحداث العظيمة المفصلية التي تمرّ بها الأمة ألا نفوّت هذه الأحداث دون القيام بقراءة واعية مركزة لها، تسعى لتلمس مكامن القوة، ومعرفة مناطق الضعف، لتكريس أولاها في جسد الأمة، وتلافي ثانيها.

وسعينا من أجل الوصول إلى هذه القراءة المعقمة للواقع، واستشراف المستقبل، أن نقدم مجموعة من الأسئلة لنخبة من الأعلام والمطلعين، ليسهموا في عملية العطاء المعرفي والترشيد العملي لهذه النهضة الفريدة الواعدة، علّ الله يكحل عين أمتنا برؤية ثمارها يانعة.

قراءة في واقع الأمة:


  بدءًا.. تشهد الساحة العربية والإسلامية حراكًا جماهيري يطالب بالتغيير على المستوى السياسي، وهذا الحراك ربما يعبر عنه بالاحتقان الداخلي، والنتائج التي حققها هذا الحراك الإطاحة بنظامي ـ تونس ومصر ـ اللذين جثما على صدر الأمة عقود من الزمن، لم تشهد الساحة العربية والإسلامية خلالها إلا الظلم والاستبداد والتقهقر.

السؤال هو: كيف تقرؤون هذا الحراك المطالب بالتغيير من حيث دلالات شموليته للعالم العربي والإسلامي، ومن حيث تأثير العامل الدولي، وما هي نتائجه المستقبلية؟


الحراك الجماهيري التي تشهده الساحة العربية والإسلامية، للمطالبة بالتغيير السياسي، هو استكمال لحركة التاريخ الإنساني في مواجهة الاستبداد والطغيان، ذلك أن تاريخ البشرية يسير باتجاه تحقيق إنسانية الإنسان، وتعزيز حريته وكرامته.

وقد تجاوزت البشرية عبر مسيرتها الصاعدة كثيراً من محطات الظلم والجور، كظلم الأنظمة الإقطاعية التي كانت سائدة في أوربا خلال العصور الوسطى، حيث كان النبلاء يفرضون سيطرتهم على الأراضي والفلاحين العاملين فيها، وكان على الفلاحين أن يؤدوا مراسيم البيعة للسيد الإقطاعي، ليقروا بولائهم له ويتعهدوا بالقتال من أجله، ويزرعوا الأرض بجهدهم وعرقهم ليتنعم السيد الإقطاعي بثمارها ونتاجها، وقد نشأ النظام الإقطاعي على يد العصابات الجرمانية المقاتلة التي كانت تجوب مساحات شاسعة في أوائل القرون الوسطى، وكانت حيازة الأرض تعني الهيمنة على الفلاحين العاملين فيها، واستمر هذا النظام الإقطاعي عدة قرون، حتى تجاوزته البشرية بعد النضال والتطور الاجتماعي، وتلاشت آخر آثاره من بعض أجزاء وسط وشرقي أوربا خلال القرن التاسع عشر.

كما واجهت البشرية ظاهرة الرق والاستعباد، وما تعنيه من سحق لإنسانية الإنسان وامتهان لكرامته، وكان الرق منتشراً في مختلف أنحاء العالم، بسبب الحروب والصراعات، ثم جاءت أعمال القرصنة الأوربية منذ أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، على شكل غارات وحملات خطف منظمة لأبناء القارة الأفريقية، ونقلهم إلى أمريكا الشمالية ومناطق أوربا لبيعهم كعبيد أرقاء، واستمرت معركة البشرية ضد هذا الظلم الفادح منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، حيث اصدر مجلس الثورة الفرنسي قراراً بإلغاء الرق في جميع المستعمرات الفرنسية، ثم جاء إعلان أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1863م بتحرير الرق، وكان ذلك من أسباب اغتياله سنة 1865م، مروراً بالاتفاقية التي وقعت عليها الدول المشتركة في عصبة الأمم لملاحقة تجارة الرق والمعاقبة عليها سنة 1926م، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وانتهاءً بالإعلان العالمي لحظر الرق وتجارة الرقيق الذي أصدرته عصبة الأمم المتحدة عام 1948م. وتخلصت البشرية من مآسي الرق والاستعباد.

وفي محطة ثالثة واجهت البشرية ظلم الاستعمار، حيث زحفت موجات بشرية من الأوربيين لتستوطن بلداناً كثيرة، أو تستولي عليها عسكرياً، وتحكم سيطرتها على مواطني تلك البلدان، وكانت بدايات الاستعمار الأوروبي مع القرن الخامس عشر الميلادي من قبل البرتغال واسبانيا، حيث نجحت البرتغال في السيطرة على البرازيل، ونجحت اسبانيا في السيطرة على أجزاء من أمريكا الشمالية ومعظم أمريكا اللاتينية، وفي القرن السابع عشر دخل الهولنديون والبريطانيون على خط الهيمنة الاستعمارية ونجحوا في احتلال اندونيسيا والهند، كما انضمت فرنسا إلى نادي المستعمرين.

وساعدت الثورة الصناعية وظهور القومية الأوربية على توسع الاستعمار في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليستوعب معظم أفريقيا وآسيا، حيث تقاسمت مناطقها مختلف الدول الأوربية: بلجيكا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وايطاليا والبرتغال واسبانيا، كما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية الفلبين، وضمت اليابان إلى إمبراطوريتها كوريا وتايوان..

وهكذا عاشت معظم الشعوب في ظل الهيمنة الاستعمارية الغازية، وتحركت الإرادة في أوصال الشعوب المستعمرة، وتوالت الثورات التحررية، كما تحرك الضمير الإنساني على المستوى العالمي، لينحسر مد الاستعمار وتنال الشعوب استقلالها بعد معارك ضاربة، وكفاح مرير، وتوّج ذلك قرار هيئة الأمم المتحدة بتاريخ 14 ديسمبر 1960م بمنح شعوب العالم غير المستقلة حق تقرير المصير، وفي نوفمبر 1961م أنشأت الأمم المتحدة لجنة خاصة لتصفية الاستعمار، وهكذا تجاوز قطار البشرية محطة الاستعمار، ليقف في مواجهة ظلم الاستبداد، حيث كانت معظم الشعوب تخضع لسلطة القوة دون أن يكون لها رأي في اختيار الحاكمين، أو شكل نظام الحكم، ولا مشاركة في اتخاذ القرار وإدارة الشأن العام.

وخاضت الشعوب معركة انتزاع سيادتها من أيدي المستبدين، وأنتجت تجارب البشرية،  وتطور فكرها السياسي، وتبلور إرادتها في الحرية والكرامة أنموذج الحكم الديمقراطي، الذي ينبثق من إرادة الشعب، ويعبر عن رغباته، وذلك باتفاق الشعب على دستور للحكم، وانتخاب السلطة شعبياً، وتمثيل الشعب في اتخاذ القرارات، والفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، واستقلالها عن بعضها، والتداول السلمي للسلطة.

وقد أصبحت معظم شعوب العالم تتمتع بميزات هذا النظام الديمقراطي، وتخلصت من مآسي الاستبداد واحتكار السلطة، إلا من بعض الشعوب ومنها معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا زالت في مرحلة النضال والسعي لانتزاع حريتها وحقوقها السياسية.

وفي هذا الإطار نقرأ ما تشهده الساحة العربية والإسلامية من حراك شعبي سياسي، أنه تعبير عن إرادة هذه الشعوب وتطلعها للالتحاق بركب المجتمعات البشرية، التي تجاوزت عهود الاستبداد، وأصبحت تعيش حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي في ظل أنظمة ديمقراطية، هي أقرب لتطبيق مفهوم المواطنة، والالتزام بحقوق الإنسان، وتحقيق العدالة والحرية، ومن ثم إنجاز التنمية والتقدم.

  • عن الإصلاح:

 الأيقونة المستجدة (الشعب يريد تغيير النظام) تفتح الباب على جملة أسئلة؛ ما يتصل بسياق الحوار هو مقاربة مفهوم (الإصلاح) الذي بات يقترب من (الثورة)، أو ما يُتداول في أدبيات النهضة من الإصلاح الشمولي والجذري.

كيف تنظرون لعملية الإصلاح من حيث المفهوم، ومن حيث إمكانه؟


لا شك أن الاستبداد السياسي هو أصل تنشأ منه وتتفرع عنه مختلف المفاسد والمشكلات، فحين تختطف إرادة الأمة بيد شخص أو فئة، تهيمن على جميع المقدرات، فإن كل شيء سيكون تحت رحمتها، والنتيجة ستكون قمع الكفاءات، ووأد الطاقات، ويصبح كل شيء في خدمة بقاء السلطة واستمرارية هيمنتها، فلا يتحقق تقدم علمي، ولا تطور اقتصادي، ولا تنمية اجتماعية، ولا حرية فكرية.

والاستبداد ينتج التخلف وينشر الفساد، ويضعف وحدة المجتمع وتماسكه، ويخلق الأرضية للتبعية الخارجية.

من هنا فإن مدخل الإصلاح هو مقاومة الاستبداد السياسي، لذلك رفع الإمام الحسين عنوان الإصلاح في مواجهته للاستبداد السياسي حيث قال : (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي).

وإذا كانت الحركات والأحزاب في العقود الماضية تتبنى فكرة إعداد المجتمع فكريّاً وثقافياً لكي تتحرك نحو التغيير السياسي، وتضع خططاً تستغرق زمناً طويلاً، فإن انتشار التعليم، وتطور وسائل الإعلام، وتكنولوجيا التواصل المعلوماتي، وانفتاح البشرية على بعضها البعض، كل ذلك إضافة إلى تراكم التجارب رفع مستوى الوعي عند الشعوب، واسهم في إنضاج إرادتها، وأكسبها خبرات تمكنها من التحرك السياسي المباشر.

من هنا فإن شعار تغيير النظام أو إصلاح النظام الذي يرفعه الشعب الآن في أكثر من بلد عربي، يجسّد الإيمان والقناعة بأن ذلك هو طريق الإصلاح والتغيير.

وحين يتحرك الشعب بغالبيته كما حصل في إيران سنة 1979م وحدث في تونس ومصر مطلع هذا العام 2011م وكما هو حاصل الآن في اليمن ومناطق أخرى، فإن هذا الحراك الجماهيري الواسع يخلق روحاً جديدة، وفاعلية خلّاقة، تتجاوز بالشعب الكثير من نقاط الضعف في الفكر والسلوك، وتدفع به نحو الرقي والتقدم في أفق التفكير والوعي، وعلى مستوى العلاقة بين مختلف أطياف الشعب ومكوناته، وقد رأينا ذلك جليًّا في مسيرة هذه الثورات الشعبية.

بقي أن نشير إلى أن ما راهنت عليه بعض الأحزاب والحركات السياسية، من إمكانية العمل ضمن الأنظمة السياسية القائمة لانجاز عملية الإصلاح من داخلها بشكل تدريجي، هذا الرهان قد أخفق في إثبات نجاحه في معظم البلدان، بسبب الخلل في بنية تلك الأنظمة، وسعيها لاستيعاب محاولات الإصلاح بالمماطلة والتسويف، وتقديم بعض التنازلات الضئيلة لامتصاص النقمة وذر الرماد في العيون.

أمام هذا الواقع كان لا بد للشعوب بعد أن يئست من إمكانية إصلاح هذه الأنظمة، أن تأخذ زمام المبادرة باتجاه التغيير الشامل، والذي يمثل ثورة حقيقية ينجزها تحرك شعبي سلمي.

إن الواعين المخلصن في كل المجتمعات يتمنون لو أن الأنظمة الحاكمة تستجيب لتطلعات شعوبها في الإصلاح، وتبادر للتغيير، وحينها تتجنب الأوطان تداعيات المواجهة والثورة، وما ينتج عنها من خسائر وتضحيات.


 عندما نتحدث عن ضرورة الإصلاح في الأمة، فذاك يستدعي وجود مبرّرات تستدعي ذلك الإصلاح، وأيضاً يستدعي وجود قدرة عند مجتمع ما.. على ممارسة الإصلاح، وأيقونة (الشعب يريد تغيير النظام) تتجه رأساً نحو الإصلاح السياسي من خارج قوانين اللعبة السياسية المعتمدة.

       فهل يعني ذاك أن مجتمعاتنا تجاوزت الإصلاح الثقافي؟


حين تختمر إرادة الثورة والتغيير في نفوس نخبة من أبناء الأمة، نتيجة إدراكها لعمق فساد الواقع، ولامتلاكها مستوى متقدم من الوعي والفكر تستشرف به المستقبل وتخطط له، ولأنها تحمل رسالة وتؤمن بقيم ومبادئ تسعى لتطبيقها وتنفيذها في الحياة.

فإن هذه النخبة الرسالية الثورية ستسعى لكسب جمهور الأمة إلى جانبها، حتى تستطيع انجاز عملية التحول الثوري الرسالي، وهنا تحتاج إلى زمن لترعى تربية جيل أو أجيال تؤمن بتلك المبادئ والقيم، وتحتاج إلى بذل جهود كبيرة لنشر ثقافة تدفع الناس إلى تبني خيار التغيير والثورة.

وهذه هي معادلة التغيير والإصلاح ضمن منهجية العمل الحزبي والتنظيمي، لكن هناك منهجية أخرى للتغيير وهي انبعاث الحركة الجماهيرية والثورة الشعبية، حين تصل درجة الغليان عند شعب من الشعوب إلى حد الانفجار، بسبب شدة القمع السياسي، وامتهان كرامة الناس، وانتشار الفقر والحرمان في أوساطهم.

هذا الواقع المأساوي قد يدفع الناس نحو الانفجار والثورة في لحظة ما، قد يُحسن التقاطها  قائد ملهم كالإمام الخميني في إيران، أو حركة رائدة كشباب 25 يناير في مصر، أو شرارة تمثل صاعق تفجير كحادثة (بوعزيزي) في تونس.

كما تستلهم الشعوب من تجارب بعضها، فتكون انطلاقة ثورة شعبية في مكان ما دافعاً لشعب آخر، يعيش ظروفاً مشابهة.

وكشاهد على ما سبق فإن بعض المحللين والمتابعين لأوضاع الساحة المصرية في أواخر عهد حسني مبارك كانوا يتوقعون الانفجار في أي لحظة، لأن الضغوط على عامة الشعب قد تجاوزت حد الاحتمال.

وهذا لا يعني إلغاء دور النخب الثورية، ولا تجاهل أهمية الإصلاح الثقافي، فالثورات والانتفاضات لا تولد من فراغ وبدون مقدمات، بل هي نتاج لتراكم حراك ثقافي واجتماعي وغالباً ما تكون خلفها تجارب ومحاولات سابقة.

لكن على النخبة أن لا تكون أسيرة قوالب نظرية جامدة تمنعها من التفاعل مع التطورات السياسية والاجتماعية، وأن لا تعيش عالمها الحزبي والنخبوي الخاص بعيداً عن نبض الشارع، وتفاعلات الساحة الشعبية.


 الآمال أصبحت كبيرة منذ شرارة (بو عزيزي)، لكن التعقيدات التي تشهدها المجتمعات العربية من الحالة القبلية والطائفية وضعف مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، ومن كونها موضع تأثير  وتجاذبات الدول الكبرى فإن عوامل القلق أيضاً كبيرة. عن التحديات الأساسية التي تواجه الحراك التغييري وسبل تخطيها؟


عملية التغيير الاجتماعي والتحول السياسي نحو الديمقراطية ليس عملية سهلة، والطريق أمامها ليس مفروشاً بالورود والرياحين، وحتى لو سقط حكم الاستبداد كما حصل في تونس ومصر، فإن ذلك لا يعني نهاية الشوط، ولا تجاوز الأخطار والتحديات، فإن صعوبات وتحديات مرحلة البناء أكثر وأخطر من مرحلة الهدم والثورة.

فهناك تحديات داخلية من أبرزها تعقيدات الواقع الاجتماعي، والخلل القائم في العلاقة بين مكونات هذه المجتمعات حين تتنوع في انتماءاتها القبلية والطائفية والقومية والسياسية.

وكذلك ما تعانيه هذه المجتمعات من آثار سياسة الاستبداد، التي أضعفت روح العمل الجمعي، وعوقت بناء مؤسسات المجتمع المدني، واختزلت مؤسسات الدولة وأجهزتها في شخص الحاكم أو الفئة الحاكمة.

إضافة إلى انعكاسات حالة الاستبداد على مختلف جوانب حياة المجتمع، مما يضعف بنيته، ويعوّق حركته ونهضته.

وهناك التحديات الخارجية المتمثلة في مطامع الدول الكبرى، للاحتفاظ بأكبر قدر وأوسع نطاق من النفوذ والتأثير في واقع الدول العربية والإسلامية.

ومن الطبيعي أن تفكر هذه الدول في خدمة مصالحها وتعزيز نفوذها، كما أن بين هذه الدول تنافساً وتجاذبات تنعكس على ساحات أوطاننا ومجتمعاتنا.

كل ذلك قد يدفع هذه الدول الكبرى لتعويق عملية التغيير في المجتمعات الإسلامية، أو محاولة التأثير على اتجاهات التغيير بما يكون انسب لخدمة مصالحها، وأقل إضراراً بمستوى نفوذها.

ومع خطورة هذه التحديات الداخلية والخارجية وضرورة عدم تجاهلها أو التقليل من شأنها، إلا  أن هناك معطيات ايجابية ترفع درجة الثقة والأمل في إمكانية نجاح حركة التغيير التي تقوم بها جماهير الأمة اليوم في أكثر من ساحة عربية وإسلامية في مواجهة هذه التحديات.

ومن أبرز تلك المعطيات ما ظهر من تقدم مستوى النضج السياسي في شارع جمهور الأمة في أكثر من ساحة، حيث توحدت الشعارات، وتقاربت المشاعر، وغابت الرايات الحزبية والفئوية والطائفية، لترتفع راية الوطن، إنه حراك جماهيري حقيقي لا يسيطر عليه حزب، أو اتجاه معين، وتشارك فيه مختلف الأطياف والمكونات، والأهداف والشعارات فيه موحدة محددة، حتى لا تلعب أي جهة داخلية أو خارجية على التناقضات.

ولعل من أهم مظاهر هذا النضج الجماهيري هو الإصرار على سلمية التحرك، وعدم الوقوع في فخ الاستفزاز التي نصبته الأنظمة الحاكمة، باستخدام العنف ضد المتظاهرين والمعتصمين، لتدفعهم للرد بالمثل، حتى يأخذ التحرك مساراً آخر.

إن ضبط الأعصاب الذي تحلّى به جمهور الثورة في تونس ومصر واليمن مثير للإعجاب والتقدير، ومحفز لرفع مستوى الثقة والتفاؤل. وخاصة في مثل حال الشارع اليمني، والذي سعى النظام ولا يزال لاستفزاز مشاعر الجمهور  الثائر، بالعدوان المتكرر على ساحات المعتصمين، مما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى، ومع أن السلاح متوفر بكثافة في أيدي اليمنيين، وكان من المتعارف استخدامه في الساحة اليمنية على الصعيد السياسي والاجتماعي، إلا أن الجمهور لا يزال يحبط محاولات النظام لجر الحركة إلى نفق العنف واستخدام السلاح.

هذا المستوى من النضج في وعي الجماهير وممارستها الثورية يكشف عن استيعاب الجمهور للتجارب السابقة في تاريخه، وعن مدى استفادته من تجارب الشعوب الأخرى، وأخذه بالنافع من الثقافات والمعارف المتداولة عالمياً.

وبهذا فاجأ الجمهور القيادات التاريخية والأحزاب العريقة، وكان سابقاً لهم ومتقدماً عليهم في المشهد السياسي الحاضر.

وعلينا أن نتفاءل بهذا النضج ونعقد الآمال عليه في مواجهة مختلف التحديات، كما أن على النخب الواعية في المجتمعات الإسلامية من علماء ومفكرين وشخصيات قيادية وحركات وأحزاب أن تلتحم مع هذا الجمهور، وتعزز حالة النضج في مواقفه.


 الروح الجديدة (الشبابية) طرحت تساؤلات عن الريادة وصناعة المبادرة بين النخبة والشباب، وأعادت الاعتبار للعمل الجماهيري الشعبي.. بيد أن ظاهر بعض المجتمعات خصوصاً في الشريحة الشبابية أنه يعيش حالة من اللا اهتمام بالشأن العام والروح التغييرية.

ما رأيكم بذلك، وما السبيل لخلق تحولات في اهتمام الشباب في العالم العربي والإسلامي نحو مسؤولية الإصلاح؟


لقد راهنت المجتمعات الإسلامية كثيراً على مختلف الطروحات والوسائل في السعي لتغيير واقع التخلف والفساد، لكنها لم تحقق لها ما كانت تطمح إليه من حرية وكرامة وتقدم.

ففي خمسينيات القرن الماضي راجت صرعة الانقلابات العسكرية، تحت شعارات تحقيق العدالة والحرية، ووضع حد للحكم الملكي الوراثي، وظن الناس في البداية بهذه الانقلابات خيراً أملاً في تحسين أوضاعهم، وتنمية أوطانهم. لكن الانقلابيين بيضوا وجوه من سبقهم، حيث أذاقوا الناس الأمرين، وأمعنوا في إذلال الناس والبطش بهم.

وحين بزغ نجم الحركات الإسلامية التف حولها قطاع واسع من جماهير الأمة أملاً في الخلاص والإنقاذ، لكن طبيعة العمل الحزبي قادت معظم تلك الحركات لمنهجية العمل النخبوي والفئوي، وأوقعتها في بعض النزاعات البينية، كما أن الأنظمة واجهتها بقسوة فرضت عليها المواجهة، ولجأت بعض أجنحتها إلى العنف، فأصبحت محدودة القدرة والتأثير، ولم تتمكن من انجاز التغيير المأمول، والحركات التي أتيحت لها فرصة المشاركة السياسية، جرى تعويمها ولم تستطع التأثير من داخل المعادلة إلا بشكل محدود.

وكاد اليأس أن يسيطر على النفوس من إمكانية التغيير من داخل الأمة، وهنا توجهت أنظار البعض إلى التماس المساعدة من الخارج، والاستعانة بتدخل الدول الكبرى لإزالة كابوس التخلف والاستبداد، خاصة وأن هذه الدول ترفع شعارات حقوق الإنسان، وتدعي السعي لتعميم نموذج الديمقراطية، وقد تنامت في مجتمعات الدول الكبرى توجهات تهتم بأوضاع حقوق الإنسان بمفهومها الشامل على المستوى العالمي، وتأسست منظمات للمجتمع المدني الأهلي، بدأت تنتزع لها دوراً ومكانة للتأثير في القرارات الدولية.

من هذا المنطلق جاء الاهتمام من أوساط بعض المهتمين بالشأن العام وقضايا التغيير في الأمة بالتواصل مع المنظمات الحقوقية الدولية، وبالتواجد في المؤتمرات واللقاءات التي تعنى بالأوضاع الإنسانية والعالمية، وبعضهم طرق باب الحوار ومد جسور التواصل مع بعض المواقع السياسية في أمريكا وأوربا.

ووصل الأمر إلى قبول تدخل تلك الدول عسكرياً حين أصبح الوضع لا يطاق في بعض البلدان كأفغانستان والعراق وليبيا مؤخراً.

لكن خيار المراهنة على الدور الخارجي والتدخل الأجنبي محفوف بالكثير من المخاطر والمشاكل، فتلك الدول لها أطماعها ومصالحها، وتدخلها يؤدي إلى تعقيدات ويخلق ردات فعل، ويجعل البلاد ساحة تجاذبات إقليمية ودولية.

وقد دفع الشعب الأفغاني وكذلك الشعب العراقي ولا يزالان ثمناً باهظاً من سيادتهما وأمنهما وثرواتهما جراء ذلك التدخل.

إزاء هذه الخيارات الصعبة في التغيير، وبعد فشل تلك التجارب المريرة، لاح في أفق الأمة أمل جديد للنجاة والخلاص يتمثل في الحراك الشعبي والانتفاضة الجماهيرية السلمية، وقد عاشت الأمة نجاح تجربة هذا الخيار قبل ثلاثة عقود من الزمن في ساحة إيران بانتصار الثورة الإسلامية سنة 1979م، حيث استطاعت الجماهير الإيرانية المسلمة بقيادة الإمام الخميني أن تسقط سلطة من أعتى السلطات في المنطقة، بفضل تلاحم جميع الفئات والشرائح والاتجاهات، عبر حراك جماهيري سلمي أذهل العالم.

وها هي شعوب الأمة اليوم في أكثر من ساحة وموقع تعود إلى ذات الخيار الجماهيري، لتتأكد من صوابيته ونجاحه مرة أخرى، ويبدو أن ما تحقق من نجاح وتقدم في الساحة التونسية والمصرية سيعزز هذا الخيار، ويدفع جماهير الأمة في مختلف بقاعها إلى الأخذ به، مما يبشر بعصر جديد للأمة إن شاء الله.

ومن الطبيعي أن يكون للشباب دور الريادة وصناعة المبادرة في حركة الجماهير، لأنهم الشريحة الأكثر حيوية، واستعداداً للتضحية والعطاء، كما أن ضغوط واقع الاستبداد والفساد تجعلهم أكثر معاناة وقلقاً على المستقبل، إنهم يعانون في معظم البلدان الإسلامية من صعوبات في فرص التعليم العالي، وفي الحصول على فرص العمل، حيث ترتفع نسبة البطالة في أوساطهم، وتواجههم أزمة السكن وتعقيدات الزواج، وتقييد حرياتهم في الإبداع والانطلاق، وهم ينفتحون على العالم، ويرون مستوى التقدم لدى سائر الشعوب، مما يزيد في نقمتهم وغضبهم، ويدفعهم باتجاه السعي للتغيير.

وإذا كنا نجد بعض ظواهر اللامبالاة والنزوع للانفلات من الضوابط والالتزامات في بعض قطاعات الشباب، فذلك من تأثير البيئة التي يعيشون فيها، وحين تنطلق أي مبادرة ايجابية في أوساطهم، ويرون أنموذجاً مشرقاً من شريحتهم، فإنهم سرعان ما يستجيبون لتوجهات الفعل الايجابي، ويأخذون موقع النضال من أجل الإصلاح والتقدم، وكما وصف الإمام جعفر الصادق الشباب: (أنهم أسرع إلى كل خير).

يشار الى أن مجلة البصائر مجلة اسلامية فكرية يصدرها مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في حوزة الإمام القائم (عج) العلمية، وقد شارك في الحوار كل من (ابجديا):

- سماحة الشيخ حسن الصفار.

- سماحة الشيخ حيدر حب الله.

- سماحة الشيخ محمد حسن الحبيب.