فقه المباح.. إضاءات فكر الشيخ محمد الدحيم

بإضاءات لامست العقل والمنطق وتعلقت بأهداب الحكمة، مستفيضة بالبراهين والأدلة وشواهد الواقع، كانت حلقة إضاءات مع الدكتور الفقيه، القاضي سابقاً محمد الدحيم.

ولأن الحكمة والقرآن صنوان لمن يرى استحضار الحكمة من النصوص، فقد أراد الدكتور إخراج الفقه من الدوائر إلى سعة الأفق..كما رأيناه رغم شيء من الرمزية أو الدبلوماسية التي أنكرها، فقيهاً عصرياً يلوذ بساحة المباح الربانية.

يقول الفقيه محمد الدحيم استنكارا لغلبة سد الذرائع على فتحها "في العرف الفقهي غلب سد الذرائع على الفتح، وربما لا تجد للفتح ذكرا عند البعض، ما سبب أزمة في الفتوى والقضاء والدعوة والتربية بل وفي الحياة والمعاش، ليصبح سد الذرائع سوطاً يضرب به الداعي والمربي، وملجأ لأشباه الفقهاء ليعملوا به وصايتهم على الناس في حراسة مشددة للحدود وإهمال مشعور أو لا مشعور به للداخل الاجتماعي، مما أنهك قوى الناس واستنزف صبرهم ودفعهم للمقاومة من أجل العيش والحياة" مستدلا بحديث "رب حامل فقهٍ ليس بفقيه"، محذراً من حالات التخلف العلمي والكسل الذهني الذي لا يستند للبحث والاستقصاء، فيتوهم بعض المتفقهين أشياء قد يصير إليها المآل فيمنعها، وبذا يكشف الشيخ أسباب حالة تدافع فتاوى التكفير والقتل والتي أخيرها وليس آخرها "تكفير مبيح الاختلاط".

أما فتح الذرائع فيصفه بالتوصل لوسائل التوسيع على الناس لقوله تعالى ﴿خلق لكم ما في الأرض جميعا فمن حق الناس أن يتقلبوا في هذه الحياة ويأخذوا فيها معاشهم، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام "أنتم أعلم بأمور دنياكم".

وبين أن المباح واسعٌ وأن فضيلة الفقيه من يعرف خير الخيرين وشر الشرين ويطبق الفقه الفهمي، لا من ينقل أو يردد "فأي فتوى أو تعليم أو تربية تضيق على الناس معاشهم وتمنعهم مما خلق الله لهم وتجعلهم في ضيق من العيش لا تجوز".

وبين الحاجة لتطبيق القواعد المقاصدية الفقهية وفقا لمعطيات العصر وتعزيزاً للمباح، فالقاعدة الإسلامية الرحبة أن "الأصل في الأشياء الإباحة"، واستنكر طرق الفقهاء لتصنيف الأحكام التكليفية التي تبدأ بالمحرم وتجعل المباح آخرها، وكأنه الأصل!

وردّ أسباب سوء التطبيق رغم التقريرات الأصولية الواسعة إلى ضيق أفق عقلية الفقيه، وضعف الملكة الفقهية وقلة التدريب الذهني وعدم الاطلاع على العالم ومتغيراته، مطالباً الفقيه بمراجعة ذاته وأدواره وتجديد وعيه وحياته، والاختلاط بالناس في أسواقهم وحياتهم، والقراءة في صحفهم، (آمل يا شيخ أن يقرؤوا صحيفة الوطن باسمها الحقيقي ومعناها الواسع، لا بالانقياد لمسمياتهم المرجفة؛ الوثن، العفن!).

كما وجه الفقيه بضرورة أن يعيش عصره، فـ"من لم تكن له روح العصر كانت له شروره"، كاشفاً دلالات منظومة التخلف؛ ككثرة الأسئلة والاستفتاء، وحالات التدين الخطأ، والفتاوى المعيقة للتنمية، (كالفتوى التي صادرت تنفيذ قرار معالي وزير العمل الدكتور القصيبي شفاه الله وعافاه بالسماح للنساء ببيع ملابسهن الخاصة، وتحريم الرياضة النسائية، واشتراطات حبس المرأة، ومحاربة استقلاليتها في مزاولة أمورها وتجارتها، بل حتى في أمور صحتها إلا بولي.).

وباستلهام قاعدة الرسول عليه الصلاة والسلام الفقهية الذاتية "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك" بيّن أن الناس إذا انخفض وعيهم فقدوا ذاتيتهم وكثرت أسئلتهم عن المباحات، فتتقلص مساحة المباح وتتسع دائرة المحرم والواجب، ليصبح المباح في حرج، مما يضطر الناس للفعل مع ضمير آثم قلق ﴿قل من حرم زينة الله... الآية.

وانتقد وبوضوح نظرة الصحوة للمرأة، ورمَز للذكورية الطاغية لأصحابها الملقية عبء الفضيلة على المرأة بآلاف المؤلفات والكاسيتات والمحاضرات الموجهة لحراسة المرأة حفظا للفضيلة، وكأن الرجل لا فضيلة له! "أصبحت المرأة تقوم مقام المفعول به فقط، تنظر من يدافع عنها، من يحرسها، من يقوم بالإحاطة عليها، بالتالي أصبحت لا ذاتية لها، لتقوم بفعل أو حراك، ففقدنا بذلك المرأة في مواقع القيادة، التأثير، والقرار، فألا يكون لها دور ولا تستقي علمها وحياتها إلا عن طريق هذا الذكر فهذه مشكلة".

كما حذر من تقييد حرية التفقه والسيطرة على العقل مسبقا بفكر سياسي أو اجتماعي أو نمط تعليمي، لأن ذلك يحرم القارئ من فضاءات متعة القراءة، ويخضعه لفهم يسيطر عليه فكر العداء والمؤامرة للكاتب أو النص، مبينا أصول القراءة العادلة ومحذرا من المواقف المبدئية التي تحجب الموقف البعدي، كالموقف من قاسم أمين وطالب الآخرين بقراءته بلا وسيط.

تحدث باسم الوطن ووقع وثيقة أخوة وطنية تسامحية مع سماحة الشيخ حسن الصفار، مؤكداً بأن لا أحد أكبر ولا أغلى من الوطن، مسترشداً بوعي خادم الحرمين الشريفين لإضافته بعض المذاهب لهيئة كبار العلماء، ومشيداً بفائدة التنوع للقضاء والإفتاء وسائر الحالة الدينية والعلمية في دعمه الأفكار، مقابل مقتل الأفكار بحراستها، مختتما بحكمة عظيمة تضرب الوصاية في مقتل بقوله "إذا أردت أن تقتل شيئا فاحرسه".

للتفكر: أدرك الجاحظ خطورة حبس العقل وتقييده فأطلق مقولته العظيمة: "ما على الناس شيء أضر من قولهم ما ترك الأول للآخر شيئاً".

لنسأل بدورنا مروجي الاتباع الأرعن ومصادري حقوق الحريات والتجديد بدعوى حراسة الدين، أليس للدين رب يحرسه ويحميه؟!

ختاماً: أوجه شكري وتقديري لممثل العقل التنويري الناهض ببركة المباح الشيخ الدكتور محمد الدحيم.

السبت 27 ربيع الأول 1431هـ ـ 13 مارس 2010 - العدد: 3452