رسالة كريمة

وجّه سماحة الشيخ حسن الصفار رسالةً لسماحة آية الله العظمى العلامة المحقق الشيخ جعفر السبحاني دعا فيها إلى ضرورة تفعيل حركة التواصل العلمي في معارف العقيدة بين المذاهب والمدارس الإسلامية، وضمّنها بمجموعة من المقترحات التي تخدم هذه الخطوة الرائدة.

الجدير بالذكر أن العلامة السبحاني وثّق هذه الرسالة ووضعها في الصفحات الأولى من الجزء الرابع من موسوعته (معجم طبقات المتكلّمين) في طبعته الأولى 1426هـ، معرفا بها: رسالة كريمة تفضّل بها العلامة الحجة الشيخ حسن الصفار، تضمنت اقتراحات قيمة وثناءً عاطرا، ننشرها هنا مقرونة بالامتنان والتقدير، راجين لسماحته التوفيق والسداد.

يشار إلى أن هذه الموسوعة من تأليف اللجنة العلمية في مؤسسة الإمام الصادق ، وبتقديم وإشراف آية الله العظمى الشيخ السبحاني.

وهنا نص الرسالة:

سماحة آية الله العلامة المحقق الشيخ جعفر السبحاني                   حفظه الله

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قضيت وقتا ممتعا ثمينا في فناء مدرسة عطائكم العلمي الوفير، حيث وفقني الله للإطلاع على الجزئين الأول والثاني من موسوعة (معجم طبقات المتكلمين)، وأمعنت النظر في قراءة المقدّمتين الضافيتين اللّتين رشح بهما قلمكم الشريف.

سماحة الشيخ الفقيه:

لقد شهدت ساحة الأمة في هذا العصر، بداية تواصلٍ معرفي يبشّر بالخير بين نخبها العلمية والفكرية لكنها اتجهت غالباً صوب المجالين الفقهي والثقافي.

ففي المجال الفقهي صدرت عام 1961م موسوعة جمال عبد الناصر الفقهية من القاهرة، لتذكر آراء المذاهب الإسلامية في مسائل الفقه جنباً إلى جنب، المذاهب الأربعة والمذهب الظاهري ومذهب الإمامية ومذهب الزيدية ومذهب الاباضية.

وصدرت مجموعة من الكتب الفقهية التي تتناول آراء مختلف المذاهب في جميع أبواب الفقه الإسلامي أو بعضها. ككتاب (الفقه على المذاهب الخمسة) للشيخ محمد جواد مغنية، وموسوعة (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي، وكتاب (الأحوال الشخصية) للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب (أحكام الأسرة في الإسلام) للدكتور محمد مصطفى شلبي، وغيرها كثير.

وكان تأسيس (مجمع الفقه الإسلامي) بالقرار الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي الثالث المنعقد بمكة المكرمة، بتاريخ 22 ربيع الأول 1401هـ الموافق 28 يناير 19891م خطوة رائدة على هذا الصعيد.

حيث يتكون هذا المجمع من علماء وفقهاء يمثلون كل الدول الإسلامية الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي بمذاهبها المختلفة، من السنة والشيعة والزيدية والاباضية.

وينتظم أعضاؤه في شعب متخصصة لها لجان فرعية، ومن شعبه شعبة التقريب بين المذاهب، وفي كل دورة من دورات المجمع تناقش قضية أو أكثر من قضايا الفكر والفقه الإسلامي، حسب تخطيط مسبق من قبل الأعضاء المشاركين. كما تصدر عن المجمع مجلة تتضمن البحوث المقدمة والمداخلات والتعقيبات، بعنوان (مجلة مجمع الفقه الإسلامي) وقد صدر منها أربعون مجلداً.

أما على الصعيد الثقافي فحركة التواصل بين مفكري الأمة وعلمائها ومثقفيها من مختلف المذاهب والتيارات أقوى وأنشط، فهناك أكثر من مؤتمر ولقاء يعقد كل عام في مختلف أنحاء العالم، لتناول قضايا الإسلام وأوضاع الأمة، وهناك عدد من المجلات الفكرية الثقافية العامة أو المتخصصة التي يشارك في تحريرها كتاب من مختلف الاتجاهات والمذاهب في الأمة.

لكن مجال البحوث العقدية، وميدان علم الكلام هو ما تشكو فيه حركة التواصل المعرفي بين مذاهب الأمة وتياراتها من الخمول والركود.

حيث لا زال هذا الميدان ساحة للصراع، ومعتركاً للنزاع، تسود أجواءه حالة التوتر، وتسيطر على حركته حالة التشنج.

ويبدو لي أن العلماء الناضجين في الأمة لم يولوا هذا المجال ما يستحق من عناية واهتمام، وتركوه لتفاعلات تراث العصور الماضية، بما فيه من خصومات وخلافات، فأصبح ساحة للقوى المتطرفة المتعصبة من مختلف المدارس والمذاهب.

ولا شك أن القضية العقدية هي الأكثر أهمية على المستوى الديني، فهي أساس الدين وجوهره وعمقه وأصله، كما أن لها تأثيرها الكبير على مشاعر الإنسان وتوجهاته السلوكية والعملية.

وإذا كان التعارف والتواصل مطلوباً بين أبناء الأمة في مختلف المجالات، فهو في المجال العقدي أكثر أهمية وفائدة.

وذلك للأسباب التالي:

أولاً: يساعد الإنسان المسلم على اكتشاف الحق ومعرفة الصواب في مسائل العقيدة، عن طريق اطلاعه على مختلف الآراء، وفهمه لأدلتها.

ثانياً: إن القراءة الموضوعية لأراء الفرق والاتجاهات العقدية الأخرى، تمكن الإنسان من معرفة الآخرين على حقيقتهم وواقعهم، بينما تكون القطيعة المعرفية سبباً للجهل بالآخر، ورسم صورة غير دقيقة عن توجهاته.

إن بعض المسلمين يسيئون الظن ببعضهم الآخر، ويحكمون عليهم أحكاماً جائرة، بناءً على مقدمات خاطئة، ومعلومات مغلوطة. قد تؤخذ عن طريق مناوئيهم وخصومهم.

ثالثاً: إن التواصل العلمي وتدارس القضايا بموضوعية وإخلاص على أي صعيد ديني ومعرفي يتيح المجال لبلورة الرأي، وتكامل الفكر، وحل العُقَد، ومعالجة الثغرات.

وكما يمكن التقارب والتكامل في معالجة قضايا الفقه والثقافة، فإنه يمكن الوصول إلى بعض المعالجات وتصحيح بعض الآراء في المسائل الكلامية والعقدية.

خاصة وأن بعض الخلافات كانت تغذيها عوامل سياسية ومصلحية، في التاريخ الماضي، وقد تجاوزتها الأمة.

رابعاً: هناك مسائل جديدة في علم الكلام تشكل تحدياً أمام العقيدة الإسلامية ككل، وهي تستوجب تعاوناً بين علماء الأمة المتخصصين من مختلف المذاهب، لتوضيح الرؤية الإسلامية تجاه هذه المسائل المطروحة في أذهان الجيل المسلم المعاصر.

سماحة الشيخ السبحاني:

إن قراءتي لمؤلفاتكم النافعة في ميدان العقيدة وعلم الكلام، كموسعتكم الهامة حول (الملل والنحل) وموسوعتكم الجديدة (معجم طبقات المتكلمين) وكتابكم القيم (الإلهيات) وسائر الأبحاث التي أثريتم بها المكتبة الإسلامية، أقول إن قراءتي لعطائكم الثري، أثار في ذهني بعض المقترحات لتفعيل حركة التواصل العلمي في معارف العقيدة بين المذاهب والمدارس الإسلامية، أودّ عرضها بين يدي سماحتكم:

1- إنشاء كلية لدراسة العقائد وعلم الكلام المقارن على نسق دراسة علم الفقه المقارن.

2- تشكيل مؤسسة علمية إسلامية تهتم بالدراسات والبحوث العقدية بمشاركة علماء ومفكرين يمثلون مختلف المدارس الكلامية في الأمة على غرار مجمع الفقه الإسلامي. ونتمنى تكرار التجربة الرائدة لمجمع الفقه الإسلامي التي سبقت الإشارة إليها من تكليف ممثلي كل مذهب بتقديم رأي مذهبهم على صعيد القواعد الأصولية والفقهية، نتمنى حصول مثل ذلك على الصعيد العقدي أيضاً بأن يقدم العلماء من كل مذهب آراءهم العقدية والكلامية بأسلوب علمي موثق، ليكون ذلك هو المصدر والمرجع المعتمد لدى الآخرين عنهم.

3- إصدار مجلة متخصصة ببحوث علم الكلام والدراسات العقدية تنفتح على مختلف التوجهات بنشر كتاباتها العلمية وإجراء الحوارات مع شخصياتهم المعرفية.

4- عقد مؤتمرات تخصصية تناقش قضايا العقيدة وعلم الكلام، تشارك فيها مختلف المدارس، ويبحث كل مؤتمر قضية محددة، مثلاً: مسألة العصمة، أو القضاء والقدر، أو أسماء الله وصفاته، أو الإمامة... وكذلك بحث المسائل الجديدة في علم الكلام كالتعددية الدينية، والعلاقة بين الدين والعلم، والهرمنوتيك أو تفسير النصوص.

قد يقال إن ما تواجهه الأمة من تحديات سياسية واقتصادية أولى بالاهتمام من هذه البحوث النظرية، لكني أجيب مع إدراكي لخطورة التحديات المذكورة، بأن إهمال ساحة البحث العقدي، يسبب الكثير من عوامل الخلل والإضعاف لقدرة الأمة على مواجهة تلك التحديات، ومن مظاهر الخلل إتاحة الفرصة للمتعصبين والمغرضين، ليعبثوا بوحدة الأمة، ويمزقوا صفوفها بطروحاتهم الطائفية المتشنجة، مثل ما يدور على شبكة الإنترنت في بعض المواقع من جدل طائفي عنيف، فلا بد من مواجهتهم بالطروحات العلمية الموضوعية.

كما أن لقضايا العقيدة تأثيراً لا يمكن إنكاره وتجاهله في نفوس أبناء الأمة، وتشكيل فكرهم الديني، وعلاقاتهم مع بعضهم، فلماذا نترك هذه القضايا الهامة خاضعة لتأثير الموروث التاريخي، وضمن حالة المفاصلة والقطيعة، ولغة الانفعال والعاطفة؟ أليس من الأفضل الارتقاء بالشأن العقيدي إلى لغة العلم والمعرفة، وضمن أفق التواصل والحوار.