الشيخ الصفار في حوار مع قناة العالم الفضائية (الجزء الثاني)

مكتب الشيخ حسن الصفار

الجزء الثاني: 22 رمضان 1429هـ
 
المقدم: السلام عليكم، نحييكم مشاهدينا، لنرحِّب مجدّدًا بالعالم والمفكِّر السعودي الشيخ حسن الصفار، ولنواصل معه الجزء الثاني من مراجعات.

في الحلقة الأولى، توقفنا عند المحطّات البارزة التي كانت له، سواء في القطيف أو في النجف الأشرف، ثم في قم، وصولًا إلى الكويت، التي لم نعطِها حقها، ولربما في هذا الجزء سنعطي الكويت حقها، لنعودَ بعدها إلى إيران ما بعد انتصار الثورة الإسلامية، فالعودة إلى القطيف.

سماحة الشيخ، نرحب بكم، لكن قبل أن أبدأ في المحطات التي يفترض أن نناقشها في هذه الحلقة، لنتوقفْ مع هذا التقرير الخاص بأبرز المحطات الواردة، التي سنناقشها معكم مع هذا التقرير، ثم نفتح الحوار.

التقرير: بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، أعلن الشيخ حسن الصفار تبنّيه لها ولخطابها وبخاصّة بعد اطلاعه على كتاب الإمام الخميني (ره): الحكومة الإسلامية، وكانت خطبه الصارخة في القطيف تدعم خط الثورة، ما عرّضه إلى مضايقات دفعته إلى الهجرة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران، واستأنف نشاطه هناك مع منظمة العمل الإسلامي محاضرًا وخطيبًا وداعيًا إلى نصرة الثورة الإسلامية، هذا الموقف العلني والصريح جعله مطلوبًا في بلده، فتوجّه إلى سورية وأقام في جوار مقام السيدة زينب في دمشق، وأكمل مساره العلمي والتعليمي والتأليفي هناك.

وعندما شنّ العراق حربه على الكويت طَلَبَ من أتباعه في القطيف والأحساء وباقي المناطق في المملكة العربية السعودية وخارجها ضرورة تعليق النشاط السياسي المعترض للتهيؤ للذود عن الوطن الذي تُهدِّدُهُ الأخطار، هذا الموقف جعل الملك السعودي الراحل فهد بن عبد العزيز، يتواصل معه عبر مبعوثين، وقد أدّت هذه القناة المفتوحة إلى عودته إلى وطنه.

وعندما استقرّ في القطيف ظلّ الشيخ الصفار يطالب بحقوق المسلمين الشيعة ومبدأ المساواة والتقريب بين المذاهب الإسلامية، وانضم إلى الحوار الوطني الذي رعاه ولي العهد آنذاك الملك الحالي عبد الله بن عبد العزيز على قاعدة شركاء في الوطن، والشيخ الصفار الذي رعى منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية، ثم الحركة الإصلاحية بات اليوم مؤمنًا بضرورة انخراط شيعة السعودية في العمل الوطني عن طريق الحوار، بدل العنف الذي ابتلي به بعض المسلمين، هذه المواقف وغيرها جعلته محطّ احترام واسع في المملكة العربية السعودية وما زال يواصل مسيرته على هذا المنوال.

المقدم: سماحة الشيخ، نرحب بكم من جديد في الجزء الثاني من مراجعات معكم. وكما قدّمنا، قبل أن نتحول إلى إيران من جديد بعد انتصار الثورة الإسلامية، توقفنا سريعًا في الحلقة الأولى عند محطات القطيف والنجف الأشرف ثم قم، وصولًا إلى الكويت، التي لم نعطِها حقها، فتحدثنا سابقًا عن لقائكم أو تأثركم بالمرجع السيد الشيرازي والمرحلة اللاحقة المرتبطة بموضوع إيران.

الشيخ الصفار: ذهبتُ إلى الكويت خطيبًا، وكنت مدعوًا من قبل الإخوة الأحسائيين الموجودين في الكويت، وكان هناك مرجعهم الديني الميرزا حسن الحائري (ره) الذي يعدُّ مرجع المدرسة التي يطلق عليها المدرسة الشيخيّة، مدرسة الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي.

 

 
حينما انفتحت على مدرسة الرسول الأعظم في الكويت، وجدت فيها ما كنت أبحث عنه.
 

هناك انفتحتُ على هذا الرجل واقترح عليَّ أن أدرس في الحكمة وفي مقامات أهل البيت ، وبالفعل كنت أدرس على يديه يوميًّا في هذا المجال كتاب «المخازن واللمعات»، وهناك انفتحتُ أيضًا على سماحة الشيخ علي الكوراني الذي كان يقيم في الكويت، وكان من رواد النشاط الديني والصحوة الدينية في الوسط الشيعي في الكويت، وكنت أزوره وأستفيد من آرائه، فكان يشجعني في توجهي الخطابي، وبخاصّة أن عمري كان في السادسة عشر أو السابعة عشر.

وانفتحت هناك على مدرسة السيد الشيرازي، الذي جاء إلى الكويت من العراق بعد أن مورست ضدّه الضغوط وأصبحت حياته في خطر من قبل النظام العراقي، ما اضطرّه إلى الهجرة إلى الكويت عام 1392هـ، وفي الكويت بنى مدرسة أطلق عليها مدرسة الرسول الأعظم ، كان فيها عدد من العلماء والفضلاء والطلبة، وقد تعرفت إلى هذه المدرسة، وكانت لديَّ معرفة سابقة بحركة السيد الشيرازي في كربلاء.

وحينما انفتحت على هذه المدرسة، وجدت فيها دروسًا جيدة وأجواءً منفتحة، وكأني وجدت فيها ما كنت أبحث عنه، إذ وجدتها حوزة من نوع آخر، فيها تجديد في المناهج والأفكار واهتمام بمشاكل الأمة، وفاعليه عملية واجتماعية، لذلك فكرت أن أنتقل إليها وألَّا أعود إلى قم، إذ كان من المفترض أن أعود بعد الموسم، لكني حينما رأيت وضع المدرسة قرّرتُ البقاء، وما شجعني على ذلك أنها بالقرب من القطيف، بحيث يكون بإمكاني أن أذهب إلى القطيف في المناسبات الدينية، فصممت على البقاء في الكويت، كما أنني حاولتُ أن أقنع بعض الأخوة الراغبين بالدراسة الدينية من القطيف بأن يلتحقوا معي في الدراسة في هذه الحوزة، وبالفعل جاءوا معي، فأصبحنا مجموعة في الكويت استفدنا كثيرًا من مدرسة السيد الشيرازي، وكنا نحضر دروسه وكان يفيدنا جدًا بما يبثُّه فينا من همّة عالية.

المقدم: ما درستموه في حوزة الرسول الأعظم كان مختلفًا عن الدروس التي تعلمتموها على يد مراجع كبار مررنا بذكرهم في النجف ثم قم، من حيث التوجه؟

الشيخ الصفار: نعم، فأنا ـ في النجف وقم ـ لم أكن في مستوًى يؤهلني الحضور إلى دروسهم، ومن ثمّ لم أكن على تماسٍّ مباشر معهم، أما في الكويت كانت المسألة مختلفة، فكانت هناك فرصة التواصل مع السيد الشيرازي مباشرةً، وكان يهتمّ بكل الطلاب الموجودين، وأهمّ شيء هو ما كان يعطينا من روح التطلُّع والطموح والاندفاع.

وبالإضافة إلى السيد الشيرازي، استفدنا من آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الذي هو الآن أحد العلماء المراجع في العراق، وكان ـ حينها ـ الزعيم المباشر لمنظمة العمل الإسلامي، وكان موجودًا في الكويت، حيث استفدنا من دروسه في تفسير القرآن الكريم وفي الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، إضافةً إلى الدروس الفقهية والأصولية واللغوية التي كنا نتلقاها في المدرسة.

لقد استفدت كثيرًا من مدرسة السيد الشيرازي والأجواء التي كانت موجودة في الكويت. وأثناء وجودي في الكويت جاء الإمام السيد موسى الصدر لزيارة الكويت، واحتفى به الشيعة والسيد الشيرازي وباقي العلماء، وكانت المرّة الأولى التي ألتقي به وأسمع خطابه بشكل مباشر، ثم ذهبتُ مع بعض المشايخ لجلسة خاصة معه، وكان ذلك في بداية أوج حركته وعطائه، جلسنا معه في جلسة خاصّة تحدث فيها عن وضع الشيعة في المملكة، والقطيف والأحساء وشجّعنا على الاهتمام العلمي والثقافي وعلى الانفتاح، وهذه أجواء عزّزت عندي التوجه الحركي والاهتمام بالشأن السياسي، فاستفدت كثيرًا من هذه المرحلة في الكويت.

المقدم: سماحة الشيخ، الغوص فيما استفدت من المحطات البارزة لربما يأخذ منّا ساعات وساعات، ولكن حتى نغتنم فرصة وجودكم معنا لنتحدث فيها عن تجربتكم العامّة، فقد ذكرتَ أنك كنت تريد أن تبقى في الكويت بعد ارتباطك بالمرجع السيد الشيرازي ومدرسة الرسول الأعظم . لكن لأبدأ معك الحديث عن انتصار الثورة الإسلامية في إيران، فهذا الأمر حتَّم عليكم العودة بشكل أو بآخر إلى قم، وبخاصّة أنك قد تعرفت إلى الإمام الخميني (ره) في النجف الأشرف، وهو ما حصل لاحقًا، إذ ذهبتم ودعمتم الثورة في إيران، فكنتم الأقرب لمبادئها وإلى علمها وثورتها، وكانت لكم العديد من المحاضرات المتنقلة في إيران، في: قم وطهران ومشهد وأصفهان وغيرها، لقد دعمتم الثورة بشكل واضح وعلني، ماذا شكّلت لكم هذه المرحلة؟

بعد انتصار الثورة في إيران

الشيخ الصفار: إذا كانت معرفتي بحركة الإمام الخميني (ره) في النجف معرفة محدودة، وذلك عبر الاطلاع على كتابه الحكومة الإسلامية، فإني في الكويت توثقت علاقتي به من خلال المنشغلين والعاملين في مجال الثورة الإسلامية، حيث كان يأتي بعض الأشخاص ـ مثل الشيخ الشهيد محمد منتظري ابن آية الله العظمى الشيخ منتظري ـ إلى الكويت في كل سنة تقريبًا، فيلتقي بنا في جلسات مطولة، ومنه بدأنا نهتمّ بتفاصيل ما يجري في إيران بخصوص حركة الإمام الخميني.

 

 
استفدت كثيرًا من مدرسة السيد الشيرازي بما يبثُّه فينا من روح التطلُّع والطموح والاندفاع.
 

وفي هذه الفترة انتقلت إلى القطيف من الكويت، حيث بدأتُ أمارس نشاطي الديني والثقافي والاجتماعي، وحينما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران كنتُ موجودًا في القطيف، وكنت قد بدأتُ عملي الاجتماعي، فكونّا تيارًا أو تجمعًا من أبناء الشيعة في القطيف من المتوثبين للعمل والطامحين للتحرك، الذين كانوا يريدون تغيير الأوضاع السائدة في داخل المجتمع وتحسين ظروف علاقتهم مع الدولة والحكومة السعودية، فحينما انتصرت الثورة الإسلامية، أعطتنا دافعًا من الحماس، وهو الدافع الذي جعلنا نفكر بأن نبدي تفاعلًا مع انتصار الثورة، وبخاصة بعد الأحداث التي حدثت في طهران واحتلال الطلاب الجامعيين للسفارة الأمريكية والتفاعلات التي أعقبتها.

بعد ذلك جاء موسم عاشوراء سنة 1400ﻫ ـ 1979م، وهو موسم يعني الشيء الكثير في منطقتنا، ففكرنا مع الإخوة الذين كانوا معي ـ مثل الدكتور توفيق السيف ـ الذي كان آنذاك عالمًا دينيًّا ـ والشيخ فوزي السيف والشيخ يوسف المهدي والشيخ محمود السيف والشيخ موسى أبو خمسين من الأحساء وآخرين ـ أن نفعّل الاستفادة والعلاقة مع ما يجري في إيران، فقررنا أن نخصِّص خطاباتنا في موسم محرم من أجل إيجاد روح حماسية حركية عند الجمهور.

وقد كان هذا ـ سابقًا ـ مجرّد حديث في الجلسات المغلقة، ولم يكن مكشوفًا، إذ كانت لدينا جلسات مع مجاميع من الشباب، نتكلم معهم فيها عن الأفكار الحركية والروح الثورية، وضرورة التغير والإصلاح، فقررنا في موسم المحرم أن نجهر بهذه الآراء على المستوى العام.

المقدم: أنا سأبقى في موضوع إيران سماحة الشيخ تحديدًا حيث أقمتم هناك، وكنتم تنظمون لإقامة ودراسة القطيفيين والأحسائيين انطلاقًا من الأجواء التي سادت بعد الثورة، وكذلك انطلاقًا من وجودكم في القطيف وتأثّركم بالثورة وقدومكم إلى إيران، وكنتم في الوقت ذاته في منظمة العمل الإسلامي التي لم نأتِ عليها كثيرًا، لكن هذا الأمر حصل بعد وجودكم في الكويت وتأثركم بالمرجع السيد الشيرازي، فكيف تم ذلك؟ ما الذي استطعتم أن تحققوه، وبالخصوص للطلبة القطيفيين والأحسائيين في إيران؟

الهجرة الثانية إلى إيران

الشيخ الصفار: بعد هذا التحرك الذي حصل سنة 1400ﻫ في القطيف وجهرِنا بالأفكار الحركية الثورية، خرجت مسيرات من الشباب كمواكب عزاء، ولكنها كانت ترفع شعارات سياسية، وكان هذا لأول مرّة في القطيف، فلم تقبل الدولة بمثل هذا التصرف، وعَدَّت هذا إخلالًا بالأمن وتجاوزًا للحدود، وبخاصة أن الأجهزة الأمنية كانت مستنفرة بسبب حركة جهيمان في مكة آنذاك، إذ كانت في الوقت نفسه تقريبًا، فجاءت قوات وحاصرت منطقة القطيف، وحصل إطلاق للنار، واستشهد مجموعة من الشباب، وحصلت اعتقالات، فاعتقل العشرات بل المئات من الشباب آنذاك، وهنا بدأنا نعيش جوًّا آخر، إذ انتقل المجتمع إلى مرحلة الصدام والمواجهة مع أجهزة الدولة آنذاك، وهو ما جعلنا نفكر بأن يهاجر بعض الأشخاص الذين يواصلون هذا التحرك الحركي الثوري إلى إيران، فهاجرتُ مع عدد من الإخوة إلى طهران، وهناك أصبح أمامنا المجال مفتوحًا من خلال الإذاعة العربية في طهران.

وهنا أريد أن أقول شيئًا للتاريخ، وهو أن الإيرانيين لم يكونوا هم الذين شجعونا على هذا التحرك السياسي الثوري أو حرضونا عليه أبدًا، بل بالعكس نحن من ذهبنا إلى إيران وكنا نهتم بتشجيع المسؤولين الإيرانيين أن يدعموا تحررنا، وهم ما كانوا بوارد أن يدعموا أي تحرك سياسي أو معارض ضد المملكة العربية السعودية، فالثورة كانت في بدايتها.

المقدم: إذًا كان هذا التحرك نتيجة الثورة الإسلامية، لنتحدثْ بصراحة، هل ولّدت الثورة الإيرانية في نفوسكم شيئًا مختلفًا؟

الشيخ الصفار: نعم، نتيجة تفاعلنا مع الثورة حصل هذا التوجه وتفاعل الناس مع هذه الأحداث، وما يسمعونه من إذاعة طهران العربية من الإنجازات والانتصارات التي تحققها الثورة، ولم يكن هذا خاصًّا بنا، ذلك أن مختلف الشعوب الإسلامية تفاعلت مع الثورة الإسلامية في إيران، ومع ما كان يجري فيها من أحداث.

المقدم: هنا يدخلنا الأمر في مسألة تتعلق بشخصكم وحركتكم سماحة الشيخ، فقد ذكرتم قبلًا أن السلطات السعودية لم تكن بوارد أن تراقب أحدًا، لأن الدراسة الدينية في إيران كان لها علاقة بالشرع والعلم والدعوة، ومن ثَمَّ ستعودون إلى القطيف معمّمين تقومون بدوركم الديني التقليدي، ولكن المشكلة بدأت بعد انتصار الثورة وبعد مجيئكم إلى إيران، هل تعتقد أن نظرة السلطات السعودية تغيرت نتيجة ما حصل في القطيف؟ لنتحدث عن هذه النقطة.

الشيخ الصفار: هنا دخلت العلاقة بين الشيعة والحكومة السعودية مرحلة جديدة، فما حصل في القطيف والأحساء ـ لأن الأحساء حصلت فيها مسيرات أيضًا، ووقع فيها جرحى واعتقالات ورفعت هناك شعارات على الجداران ـ حيث أوجد هذا أمرين مهمّين، هما:

 

 
شجّعنا الإمام موسى الصدر على الاهتمام العلمي والثقافي وعلى الانفتاح.
 

الأمر الأول: لَفْت نظر الحكومة السعودية إلى ضرورة الاهتمام بأوضاع الشيعة في المنطقة، ونتيجة لذلك تكونت لجنة بهذا الخصوص لدراسة أوضاع الشيعة في القطيف والأحساء، وهذا التحرك حصل نتيجة مشاكل يعيشونها ولا بد من معالجة هذه المشاكل، وهذا أمر جيد في ذلك الوقت.

وعلى إثر ذلك تحفزت الدولة لمعالجة الأوضاع، فبدأت تظهر بعض التطويرات العمرانية في منطقة القطيف، ودخلت المنطقة مرحلة أخرى، ولذلك لمّا عدنا بعد فترة المعارضة ما كنا لنتعرف إلى بلادنا بسبب التغيرات العمرانية الكثيرة التي حصلت فيها.

الأمر الآخر: اتجهت الدولة إلى التفكير بأن الشيعة أصبحوا مصدر قلق أمني، وأن هناك علاقات مع إيران ومع الثورة فيها، وهذا سلّط نظر الأجهزة الأمنية السعودية على الوضع الشيعي في المنطقة أكثر مما سبق، وبدأ هناك اهتمام واعتقالات وتحقيق وأحداث كثيرة حدثت في تلك الفترة.

المقدم: مع تكاثر الطلبة بعد انتصار الثورة أكثر مما قبل، حيث كان عدد الطلاب بحدود العشرين، فيما اختلف الأمر بعد ذلك، إذ بدأت تبرز هناك ـ سماحة الشيخ ـ تيارات سياسية داخل النسيج الطلابي الوافد من السعودية، فظهر ما سمي ـ حينها ـ بحزب الله الحجاز، الذي طالب بولاية الفقيه، هل دخلتم في صراع من نوع آخر، أم هو تنظيم عابر، وبالتالي قال كلمته وكان لكم رأيكم وموقفكم؟

بروز التيارات السياسية بعد انتصار الثورة

الشيخ الصفار: الحالة السياسية في المجتمع الشيعي السعودي جديدة ناشئة، وكأي حالة ناشئه تمر بمراحل، مرحلة بداية أو مراهقة، إلى أن تصل إلى مستوى من النضج الذي يمكنها من العمل ضمن محيطها وضمن معادلات مجتمعها وبلدها، أما فيما يرتبط بي وبالأخوة معي، فنحن نعترف أننا حينما انطلقنا في عملنا السياسي المعارض كنا ناشئين، ومن ثَمَّ مررنا بتجارب وتطورت حركتنا وأطروحاتنا السياسية، فحينما بدأنا، بدأنا بعنوان عريض هو: «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية»، لكننا فيما بعد بدأنا ندرك أن هذا العنوان أكبر من حجمنا، وأن هذا العنوان لا يتناسب ولا يتوافق مع شروط بلدنا وواقعه.

المقدم: حزب الله الحجاز تصنفه ضمن هذا الإطار؟

الشيخ الصفار: هذا كتحليل مني فيما يخصّ تجربتنا، ولكني لا أستطيع أن أتكلم عن الآخرين، فهم من ينبغي أن يتحدثوا عن تجربتهم، لكن تحليلي أننا كما بدأنا نستعمل عناوين كبيرة وصارخة، فالإخوة أيضًا في حركتهم استعملوا هذه العناوين الكبيرة والصارخة أيضًا، ولكني ـ كما أعتقد ـ ما عادت هذه العناوين الصارخة مطروحة عندنا ولا عندهم، فالجميع منا اقتنع بأن العمل والتحرك يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الوطني والمحلي والاجتماعي، وأن الشيعة في المملكة ـ وهذا ما سنتحدث عنه ـ ليس لهم طموح تغيير السلطة والاستيلاء عليها، كونهم أقلية، ولإدراكهم لوضعهم وحجمهم، وللوضع الموجود في البلد، ومنتهى ما يطمحون إليه هو المشاركة مع بقية الشرائح الاجتماعية، كما عبرت عنه وثيقة: «شركاء في الوطن».

المقدم: على كل حال، المحطة الخاصة بالمملكة والحوار الذي فتح ـ سواءً على مستوى المذاهب أو الحوار مع الملك عبد الله ـ سنأتي عليها سماحة الشيخ، بعد إيران ومحطات أخرى مهمّة وبعد المواجهة ـ بين مزدوجين ـ مع مدرسة ولاية الفقيه وحزب الله الحجاز الذي تحدثتم عنه، توجهتم إلى السيدة زينب في دمشق، وهناك واصلتم تأسيس حوزات علمية وحسينيات، ثمّ بدأتم بنشر كتب ومؤلفات، وبدأتم تخطبون في سورية وخارجها، وكان لكم جولات خارج سورية، وصلتم بها إلى البحرين وغيرها، ما الذي شكلته لكم هذه المحطة المهمّة والغنية؟

 

 
في موسم عاشوراء 1400ه ـ 1979م، قررنا مع بعض الاخوة الخطباء أن نخصِّص خطاباتنا من أجل إيجاد روح حماسية وحركية عند الجمهور.
 

الشيخ الصفار: أود أن أشير إلى أن العلاقة مع الإخوة ما كان يعرف بحزب الله الحجاز، لم تكن علاقة تصادم، بل كان مجرّد اختلاف في الرأي والتوجه، فنحن نعتقد أنّ أيّ تحرك في المجتمع الشيعي في المملكة ينبغي أن يكون مستقلًا، وألا يكون مرتبطًا بأي جهة خارج البلد، وأنه لا بدّ أن يأخذ ظروف البلد بعين الاعتبار، كما أننا ننتمي إلى مرجعية السيد الشيرازي، وهذه المرجعية ـ بعد انتصار الثورة وانتقال السيد الشيرازي إلى إيران ـ حصل نوع من الاختلاف بينها وبين القيادة الإيرانية، بينما الإخوة في حزب الله الحجاز كانت لهم وجهة نظر مغايرة، وما كانوا مع هذا الاتجاه، بل كانوا يرون ضرورة إظهار العلاقة مع الجمهورية الإسلامية ضمن عنوان ولاية الفقيه، وهذا كله كان ضمن المرحلة السابقة.

 

جئنا إلى سورية عندما بدأت العلاقات السعودية الإيرانية تأخذ منحى الصراع بعد الأحداث التي حصلت في مكة، حيث تشنجت وتوترت العلاقات السعودية الإيرانية، فرأينا أن بقاءنا في إيران ضمن هذا الجوّ سيجعلنا ضمن خندق في مواجهة خندق آخر.

المقدم [مقاطعًا]: سنتابع معك المحطة الخاصة بسورية ـ سماحة الشيخ ـ بعد الصدام الذي وقع بين السعودية وإيران، لكن بعد توقف مع فاصل قصير.

[فاصل إعلاني]

المقدم: نعود إليكم مشاهدينا لمتابعة مراجعات مع الشيخ حسن الصفار، ونصل إلى الجزء الثاني من الحلقة الثانية المرتبطة بالمحطات الأبرز للشيخ حسن الصفار. شيخ حسن، أعود إليك الآن في المحطة المتميّزة عن غيرها من المحطات ـ سواءً في النجف الأشرف أم في قم ـ وهي: سورية ومنطقة السيدة زينب ، حيث ذهبتم إلى هناك بسبب الخلاف الذي وقع بين السعودية وإيران بعد انتصار الثورة، حيث أصبحتم مرغمين بالتوجُّه إلى مكان آخر غير إيران، فتوزعتم بين سورية وغيرها، وتغيرت سياستكم في مقرّ إقامتكم الجديدة، فأنشأتم حوزات وحسينيات وجوامع ورعاية تنموية، لكنكم كنتم بعيدين عن السياسية، لماذا؟

في منطقة السيدة زينب

الشيخ الصفار: في منطقة السيدة زينب كان هناك تميز في جانبين، هما:

الجانب الأول: التواصل الاجتماعي والجماهيري، لأن كثيرًا من الناس من أبناء منطقتنا في القطيف والأحساء كانوا يفدون إلى منطقة السيدة زينب لزيارة مقامها وللاصطياف، إذ لم يكن المجال أمامهم مفتوحًا للذهاب إلى العراق، بسبب توتر الأجواء هناك، وكذلك ما كانت الفرصة متاحة لأن يذهبوا إلى إيران، لما فيه من محذور أمني وسياسي، فكان الناس يأتون إلى سورية بمنطقة السيدة زينب بصورة طبيعية، وهو ما أتاح لنا فرصة طيبة للتواصل مع مجتمعنا وإقامة دورات ومحاضرات تثقيفية لهم، والتعرف إلى الطاقات والعناصر الشابة، وكذلك مكّننا من الاستفادة من دعم الناس لنا؛ لأننا كنا نعتمد على دعم مجتمعنا ماديًّا ومعنويًّا وبشريًّا بشكل أساس.

المقدم: لكن رغم كل الظروف التي كانت قائمة، كنتم بعيدين عن السياسة.

 

 
الإيرانيون لم يكونوا هم الذين شجعونا على التحرك السياسي الثوري.
 

الشيخ الصفار: نعم، في سورية كنّا نعرف أن الحكومة السورية لها علاقات جيّدة مع المملكة، ومن ثَمَّ لم يكن ممكنًا أن نمارس نشاطًا سياسيًّا أو إعلاميًّا ضد الحكومة السعودية داخل سورية، فكان نشاطنا السياسي والإعلامي في مناطق أخرى، في أوربا وأمريكا ولبنان، ولم يكن هناك أي نشاط سياسي وإعلامي واضح في سورية.

المقدم: لكن هل هذا الأمر كان نتيجة تبليغكم مثل هذا الحظر من قبل السلطات السورية أم هو حظر ذاتي لمعرفتكم المناخ العامّ هناك؟

الشيخ الصفار: كان نتيجة معرفتنا، وكذلك لأن بعض الجهات الأمنية التي تتعامل مع المقيمين في منطقة السيدة زينب كانت تبلغ هذا الأمر، وهم بدورهم يبلغون القائمين على الحسينيات والحوزات العلمية بأن ممارسة الأنشطة السياسية أمر محظور.

المقدم: لكن في هذا الوقت ـ سماحة الشيخ ـ كانت تصلكم أخبار ـ وأنتم في دمشق ـ عن اعتقالات كانت تحصل لبعض الطلبة السعوديين الآتين من قم، نتيجة الاختلافات التي كانت قائمة بين السعودية وإيران بعد انتصار الثورة، هل هذا الأمر كان يقلقكم بحيث جعلكم ملزمين بالبقاء في سورية، وهل بدأتم تصرفون النظر عن العودة إلى السعودية، أم أنكم كنتم تريدون أن تواجهوا حتى لو تعرضتم للاعتقال؟

الشيخ الصفار: في ذلك الوقت لم تكن مسألة العودة إلى السعودية هي التي تحكم حركتنا، فما كان يهمنا أن يكون هناك ضغط إعلامي وسياسي لإحداث انفراج في العلاقة ما بين المواطنين الشيعة والحكومة السعودية، ولذلك كانت هذه الأخبار تنعكس على نشاط الإخوة في أمريكا وأوربا، إذ كان هناك نشاط إعلامي مكثف ونشاط سياسي، وتواصل مع منظمات حقوق الإنسان، وكذلك كانت تقام اعتصامات، فكانت هناك حركة سياسية فاعلة ومؤثرة.

 

 
حينما انطلقنا في عملنا السياسي المعارض كنا ناشئين، ومررنا بتجارب إلى أن تطورت حركتنا وأطروحاتنا السياسية.
 

أما الأمر الآخر الذي ميّز فترة وجودنا في سورية، فهو: تبلور خيارنا السياسي، حيث بدأنا نفكر بشكل أعمق، ونراجع أنفسنا أكثر، فإننا ـ كجزء من المواطنين الشيعة ـ ينبغي أن نبلور خياراتنا، لأننا لا نستطيع ـ ولا يصح لنا ـ أن نستعمل هذه العناوين والشعارات الصارخة، كتغيير النظام السياسي في المملكة، فهي ليست مهمتنا، وكذلك لا يتناسب مع وضعنا أن نرفع مثل هذا الشعار، وهنا بدأ التوجه للاعتدال في حركتنا السياسية، فغيَّرْنا اسم حركتنا، من: «منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية» إلى: «الحركة الإصلاحية في الجزيرة العربية».

المقدم: ربما كان هذا التوجه قد بدأ بمقدمات، وهو الذي فتح المجال أو القناة من قبل السلطة في المملكة العربية السعودية معكم، لأنه نقل في بعض القنوات أن هناك اتفاقًا قد حصل بينكم ـ كمعارضة ـ وبين الدولة، أفضى بعودتكم إلى القطيف، وهناك من يأخذ على هذا الأمر أنه قد حصل بمباركة ملكية، ماذا يعيب هذا الأمر إذا كان فعلًا هذا الذي حصل؟

الحوار والعودة إلى الوطن

الشيخ الصفار: البداية كانت من موقفنا تجاه غزو العراق للكويت، فحينما جاءت القوات المتحالفة من أجل تحرير الكويت، وكان للمملكة العربية السعودية دور أساس في هذه المعركة، بعث النظام العراقي كثيرًا من الوسطاء والوفود لكي يشجعنا على فتح العلاقة معه، وأنه مستعد لتقديم كل ما يلزم لنا كمعارضة للحكومة السعودية، ولكننا كنا نرفض قبول ما كان يقدّمه النظام العراقي، لأننا ما كنا نثق بالنظام العراقي، من جهة، ومن جهة أخرى: لأننا ما كنا نقبل لأنفسنا أن نكون أشبه بالمرتزقة، نتجاوب مع أي قوّة خارجية ضدّ وطننا وحكومتنا، ولذلك أعلنّا موقفًا صريحًا نجمِّد بموجبه معارضتنا ما دام الوطن يتعرض لمحنة، وطلبنا من المواطنين الشيعة أن يكونوا في خندق واحد مع حكومتهم للدفاع عن الوطن، حتى يتجاوز هذه المحنة.

هذا الموقف لفت نظر الملك فهد، فبادر إلى بعث رسائل لنا، وبَعَثَ موفدين من قبله لشكرنا على هذا الموقف الوطني، ولكي يفتح معنا الحوار وسبل العودة.

أما بخصوص أنها مباركة ملكية، فهذا لا يعيب، بل على العكس من ذلك، فهذه نقطة قوة للطرفين، للحكومة السعودية، فالملك شخصيًا هو من اهتم بالأمر، ونقطة قوة لنا، لأننا عدنا بالحوار مع أعلى المستويات.

المقدم: الذين ينتقدون موقفكم هذا، يشيرون إلى أن المواجهة هنا سقطت، ولكن قدّمتَ لهذه الفكرة، بأنكم كنتم ترون أن ليس من مصلحتكم أن تعلنوا انتماءً سياسيًّا من أهدافه إسقاط النظام أو ما شابه ذلك، إنما تريدون العمل على تنمية الطائفة التي تنتمون إليها، بأن تتحسّن أوضاعها، فكانت هذه الفرصة هي التي فتحت باب الحوار، والآن وصلنا بكم ـ سماحة الشيخ ـ إلى السعودية، وإلى القطيف ـ مسقط الرأس ـ، وإلى الانطلاقة، هل ساعدتكم هذه الفرصة على المطالبة بالإفراج عن عدد من المعتقلين؟

سماحة الشيخ، كان هناك الكثير من المعتقلين، فهل هذه الحوارات التي فتحت مع الملك فهد ـ ثم مع الأمير عبد الله الذي أصبح ملكًا لاحقًا ـ ساهمت في الإفراج عن هؤلاء؟ وهل ساهمت في التنمية التي كنتم تريدونها؟

أطلاق سراح المعتقلين وتجاوز مرحلة القلق

الشيخ الصفار: قبل أن نعود إلى البلد، وبمجرد أن بدأت المفاوضات، كان إطلاق سراح المعتقلين هو من الأمور الأساسية في البحث، وقد أصدر الملك فهد آنذاك أمرًا بإطلاق سراح كل المعتقلين قبل أن نعود إلى البلد، وأُطلق سراح كل المعتقلين السياسيين من الشيعة، مع أن بعضهم كانت قد صدرت أحكام قضائية ضدّهم، ولكن الملك وافق على إطلاق سراح كل المعتقلين دون استثناء، وكذلك أولئك المتواجدون في الخارج ممن كانوا في المعارضة، جرى الحديث مع موفدي الملك ومع المسؤولين بأن تُسَهَّل لهم العودة دون محاسبة، وبالفعل أعطى الملك توجيهًا صريحًا وواضحًا بأن يعود كل أبناء الشيعة الذين كانوا في الخارج ـ وهم بالمئات ـ إلى الوطن دون أي أذًى أو محاسبة عما سبق، وبالفعل عاد كل من رغب بالعودة، وبعضهم أتيحت لهم الفرصة أن يعود إلى وظيفته وعمله السابق، لكي يُطَبِّعَ حياته في البلد. وبخصوص الممنوعين من السفر، كان هناك عدد كبير من أبناء الشيعة ممنوعون من السفر، فجرى البحث في هذا الموضوع، وصدر الأمر برفع هذا الحظر.

 

 
موقفنا من تداعيات احتلال الكويت لفت نظر الملك فهد، فبعث موفدين من قبله لشكرنا ولفتح الحوار معنا.
 

فالملف الأمني كله عولج، وأصبح التعامل ـ وهذا أمر مهم ـ مع المواطنين الشيعة ومع النشاط الشيعي لا ينظر إليه من خلال المنظار الأمني كما كان سابقًا، حيث كان بمجرّد أن يطبع البعض كتابًا أو يقيم حفلاً أو أي نشاط ثقافي أو ديني، تنظر له بعض الأجهزة على أنه اختراق أمني أو مخالفة أمنية، فيتعامل معه على المستوى الأمني، ولكنه فيما بعد أصبح يتعامل مع أي مخالفة ضمن إطارها المدني، فإذا نُشر كتاب بدون ترخيص، يُتعامَل مع الناشر على أنه خالف قانون المطبوعات، وكذلك إذا أقيم حفل بدون ترخيص، تتعامل معه أجهزة الدولة على أساس أنه خالف الإجراءات المتبعة.

المقدم: هذه حُسِمَت وطويت ورقتها، لأدخل معك مرحلة الحوار والرؤى الفكرية سماحة الشيخ، أولًا: مسألة الحوار مع الملك عبد الله سبقها مجموعة لقاءات وقبلها مع الملك فهد، وهي كانت البداية والمقدمة، ثم تلتها مجموعة لقاءات فكرية بين المثقفين السعوديين، قيل إنه كان هناك من يحاول إفشالها، السؤال الذي نحاول أن نطرحه هو: هل كان من يحاول إفشال مثل هذه اللقاءات ـ التي كانت تشكل رؤى للمستقبل ـ من السلطة أم من خارجها؟

الحوار الوطني محطة من محطات الاستقرار

الشيخ الصفار: في الواقع، الملك عبد الله لديه اهتمام بموضوع الحوار، وهذا أمر يقدر له ويُكبَر فيه، سواءً كان على مستوى الحوار الوطني ـ حيث دعا ممثلين من كل الشرائح لكي يجتمعوا تحت رعايته، وأن يجروا حوارًا وطنيًا، وهذا أمر يُعدُّ سابقة ومنعطفًا جديدًا في تاريخ العلاقة بين الفئات والشرائح داخل المملكة، وكانت هذه مبادرة إيجابية وكبيرة من خادم الحرمين، وبالإضافة إلى الحوار الداخلي، اتجه إلى الحوار الإسلامي ـ الإسلامي، وانعقد مؤتمر حوار مكة الذي جمع شخصيات إسلامية من كل المذاهب والبلدان والاتجاهات، وأخيرًا طرح الملك حوار الأديان الذي انعقد في مدريد.

إن هذا التوجه عند الملك عبد الله توجه إيجابي ينبغي أن يقدر وأن يشجع، وينبغي كذلك التعاون معه لإنجاح هذا المسار، وفي الاتجاه المقابل علينا أن نقف أمام من لا يعجبه هذا التوجه سواء كان من داخل المجتمع أو ضمن المؤسسات الرسمية.

المقدم: حتى نتحدث بصراحة أكثر، هل المعارضة هي من قِبَل بعض التيارات السلفية أم الأمر مرتبط بالنظام بشكل أو بآخر وتريد أن تحميه وإن بشكل لا يخدمه؟

الشيخ الصفار: الأمر الواضح أن هناك اتجاهات متشددة في المدرسة السلفية أو في المؤسسة السلفية، وهو أمر لا أعمّمه على كل السلفيين، فهناك معتدلون يخوضون صراعًا ضدّ التطرف الموجود داخل ساحتهم، لكن الواضح ـ ومن خلال البيانات التي تنشر على الإنترنت والخطابات العامّة ـ أن هناك اتجاهًا متشددًا متطرّفًا داخل السلفيين لا يقبل الانفتاح على الآخر، ومتمسك بمواقفه الحادّة اتجاهه، ولا ينحصر ذلك تجاه الشيعة فقط، إنما هو تجاه كل من يخالفه في الرأي، بما يشمل السنة الصوفية ـ مثلًا ـ، أو تجاه الليبراليين، أو أي جهة أخرى تخالفهم في الرأي، وهؤلاء هم من مارسوا ضغوطًا شديدة لكي يفرغوا الحوار الوطني من محتواه.

المقدم: مع هذا، قيل إن لديكم اتصالات ـ سماحة الشيخ ـ حصلت مع بعض رموز السلفية في المملكة العربية السعودية، من بينهم: الشيخ سلمان العودة، هل يمكن أن نقول أنها ساهمت فيما له علاقة ـ لاحقًا ـ بنظرتكم للتقريب بين المذاهب، وهي مسألة أساسية وأنت كتبت الكثير حولها؟

 

 
المتشدّدون من الاتجاه السلفي بالمملكة مارسوا ضغوطًا لكي يفرغوا الحوار الوطني من محتواه.
 

الشيخ الصفار: أنا أعتقد أن القطيعة والتنافر الموجود بين الناس هو السبب الرئيس للتعصب وللحدّية في المواقف، لأن الناس إذا اقتربوا من بعضهم البعض وتعرفوا إلى بعضهم، يمكن معالجة جزء كبير من هذه المشكلة، وهناك كلمة جميلة للإمام السيد عبد الحسين شرف الدين يقول فيها: «المسلمون إذا تعارفوا، تآلفوا»، ولهذا نجد أن القران الكريم يطلق مبدأ التعارف، فيقول تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[1] .

إن التعارف أمر مهم جدًا في المملكة العربية السعودية، وبخاصّة بعد هذه القطيعة بين الشرائح المختلفة التي استمرّت لفترة طويلة آن لها أن تنتهي، ومن المؤسف أن يظلّ كل فريق متسمّراً في موقعه, ولا يقترب من الآخر, وفي نطاق مذهبه، ومتقوقع ومنطوٍ على نفسه، والشيعة مطالبون بهذا أكثر، فهم كانوا يشعرون بالحصار عليهم من الطرف الآخر، ما جعلهم ينطوون على أنفسهم، ونجد أن الكثير منهم استمرّ على حالة الانطواء والانكفاء، فعدّها هي الأصل، وأصبح الانفتاح يحتاج إلى دليل وإقناع، لذلك نعاني داخل مجتمعنا الشيعي من وجود حالات ترفض الانفتاح، وإن كانت الحالة الأوسع هي الحالة التي تشجع وتؤيد الحوار.

المقدم: سماحة الشيخ، هل أسهم الحوار عن شيء مّا مختلف؟ لأننا نريد أن نصل إلى النقطة المرتبطة بتلاقي الأديان انسجامًا مع شعار التعارف، هل حقق هذا الحوار شيئًا ملموسًا؟ وهنا نتحدث عن الحوار الذي انعقد داخل المملكة العربية السعودية على المستوى المذهبي، ذلك أنك صاحب رؤية في هذا الموضوع؟ وما الذي حققه من خلال مراقبتكم لما جرى؟

الشيخ الصفار: أنا أعتقد أولاً: أنه حقق أشياء كثيرة، تصلح لتأسيس مستقبل جيد على المستوى الوطني؛ لأنني أخالف بعض أولئك الذين يتوقعون أن تنتج هذه الحوارات واللقاءات قرارات وتغييرات فورية، فهو تصور ليس ناضجًا وليس صحيحًا، فهذه الحوارات أعطت فرصة للتلاقي وتجاوز الحواجز النفسية, ومكّنت الأطراف أن تلتقي وتتعرف إلى بعضها بعضًا عن قرب، ثانيًا: شكلت اعترافًا بالتعددية داخل الوطن، ففي الماضي كان هناك رأي واحد واتجاه واحد فقط، وهو الذي يظهر على الساحة، واختزلت المملكة واختزل شعبها كله في لون واحد، هو اللون السلفي أو المدرسة السلفية.

بعد الحوار الوطني أصبح هنالك اعتراف بالتعددية، وكان ذلك من اللقاء الأول، إذ كان هناك بند من البنود يصر على الإقرار بالتعددية الفكرية والمذهبية، وبالتالي أصبح هناك فرصة في وسائل الأعلام لظهور الرأي الآخر، وكذلك في النشاط الاجتماعي والثقافي، فنحن الشيعة ـ مثلًا ـ لم يكن أمامنا ـ في الماضي ـ فرصة أن ننشر بعض آراءنا وأفكارنا في وسائل الأعلام، بينما أصبح الآن ـ إلى حدٍّ ما ـ متاحًا. نعم، قد لا يكون هناك مجال لطرح القضايا التي هي مورد اختلاف عقدي، لكن القضايا الفكرية والثقافية ـ وكذلك مناقشة بعض الأمور التي ترتبط بوضع الشيعة ـ أصبحت متاحة في وسائل الأعلام.

المقدم: سماحة الشيخ، لعلّ هاجسكم ـ بالأساس ـ كان مسألة التنمية، حيث طرحتم هذا الشعار خلال وجودكم في الخارج، في كل المحطات التي مررتم بها كنتم تريدون أن تعودوا إلى القطيف تحديدًا، وأن تنهضوا بالمجتمع القطيفي والأحسائي؛ لأنه كان مظلومًا ومحرومًا، هل تعملون على مسألة التنمية الآن؟ وإلى أين وصلت نتائجها؟ أم لا تزال في البدايات؟

التنمية واجهة حضارية للوطن

 

 
بعد الحوار الوطني هنالك اعتراف بالتعددية، وفرصة في وسائل الأعلام لظهور الرأي الآخر، وفي الأنشطة الاجتماعية والثقافية.
 

الشيخ الصفار: في الواقع، نحن نهتم بموضوع التنمية على المستوى الوطني العام، فمادمنا نعيش في وطن واحد، لا يمكن الحديث عن التنمية في منطقة دون أخرى، نحن مهتمون أن نكون شركاء مع كل القوى الواعية في الوطن، مع الحكومة وأجهزة الدولة، ومع بقيه القوى الأهلية من أجل التنمية على المستوى الوطني العام، صحيح أننا نشعر في منطقتنا أن هناك تدنيًّا في بعض الخدمات، وتخلفًا في بعض المجالات، ولكننا حينما عدنا إلى المملكة وزرنا المناطق الأخرى، وجدنا مناطق في المملكة تعيش حالة ليست أفضل من الحال التي نعيشها، وهذا ما أكد لنا تكريس الهمّ الوطني العامّ، وأن نعمل على الصعيد الوطني العام.

ولكن باعتبارنا نعيش في هذه المنطقة وهذا المجتمع، فإن إمكانية العمل لنا في منطقتنا هي أكثر منها في المناطق الأخرى، ولذلك تحركنا في هذا الاتجاه، وأصبحنا ضمن هذا الحراك الموجود في منطقتنا، بحيث نشجع وندفع باتجاه التنمية التعليمية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

المقدم: سماحة الشيخ، حتى لا تُتَّهمون بالاعتدال ـ وهذه ليس تهمة، إنما هي خيار،...

الشيخ الصفار [مقاطعًا]: الاعتدال وسام.

الاعتدال يتقاطع فكريًا مع التشدد

المقدم: لكن لنعترف أن هناك هجمةً واضحةً من قبل التيارات السلفية المتشدّدة ـ وأنت أشرتَ إلى أن هذه التيارات كما تعيش اتجاهًا متشدِّدًا، يوجد بها تيارات معتدلة ـ هل تَعُدُّ مسعاك الدعوي واجتهادك وفكرك وكذلك كتبك هي في هذا الاتجاه؟ أي من أجل إسقاط هذه الحالة السلفية المتشدّدة، وأنك ربما مع غيرك ستربحون المعركة؟ أم هي معركة خاسرة؟

الشيخ الصفار: هي معركة على مستوى العالم الإسلامي كله، فالتشدد موجود في كل الطوائف والمذاهب، لكنّ نسبته وحجمه قد يختلف من طائفة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، وأنا أعتقد أن العقلاء والواعين من أبناء الأمّة في كل المذاهب والطوائف آن لهم أن يأخذوا زمام المبادرة، وألا يتركوا الساحة للمتشدِّدين والمتطرِّفين؛ لأنهم سيقودون أمّتنا إلى الدمار، ونحن رأينا ما حصل في واقع الأمة الإسلامية بسبب توجهات التطرف والتشدد في العلاقة مع الخارج، عبر هذا الإرهاب الذي أصبح وصمة عار على جبين المسلمين، يُنْبَزُون به في كل مكان، وفي كل بلد على الصعيد الداخلي، وهو ما رأيناه من اقتتال واحتراب مذهبي وفئوي في أكثر من بلد، لماذا تبقى بلانا تعاني من هذه الحالات، في العراق ولبنان والصومال وأفغانستان، إننا نجد أن هناك من يحاول أن يقود المعارك السياسية إلى فخّ الاحتراب المذهبي، وإعطاء الطابع المذهبي للنزاع والاحتراب، لقد آنَ لنا أن نأخذ زمام المبادرة، وألا نفكر في المكاسب الآنية المحدودة، إنني أعمل من أجل مستقبل هذه الأمة ومن أجل استقرارها.

المقدم: هذا طموح كبير سماحة الشيخ، ولربما يستحق كثيرًا من الوقفات، ولكنك طالما استعملت تعبير «وطنيّة الشيعة»، ونحن نتحدث عن هذه الوطنية في المملكة التي كان التباعد فيها هو الأساس وليس التقارب، هل كرّستم هذه الوطنية ووضعتموها على الطريق، بكلمة لو سمحت؟

الشعور بالانتماء إلى الوطن

الشيخ الصفار:نعم، نحن نعتقد أن من مهماتنا الأساسية تكريس هذه المشاعر وهذه الاهتمامات الوطنية، بحيث يشعر المواطنون الشيعة أنهم جزء من وطن وشعب، وأن يحققوا ـ إلى جانب إخوانهم ـ التنمية والبناء في وطنهم بشكل عام، وهذه المشاعر ـ والحمد لله ـ نشعر بها في أوساط مجتمعنا، ولكن ما نريد أن يتحقق أن يبادلنا الآخرون المشاعر نفسها، وأن نضع حدًّا للاتهامات والتشكيك بالولاء الوطني الذي لا يستفيد منه إلّا الأعداء.

 

 
نريد أن يبادلنا الآخرون مشاعر الأخوّة والمواطنية، وأن نضع حدًّا للاتهامات والتشكيك بولائنا الوطني الذي لا يستفيد منه إلاّ الأعداء.
 

المقدم: على كل حال سماحة الشيخ، الحكم على تجربتكم وعلى المحطات التي وردت معنا في هاتين الحلقتين نتركها للمشاهدين حتى يقيموها، لأننا لا نريد أن نطرح عليك السؤال هل نجحت في مسعاك أم لا، فالدرب مازال طويلًا أمامك، متمنين لك التوفيق في مسعاك في مختلف الصُّعد.

الشيخ الصفار: أودّ أن أقول أن المسألة ليس اجتهادًا شخصيًّا فما نحققه، ـ أنا ومعي نخبة من أبناء المجتمع ـ، من إنجازات ومكاسب كلنا شركاء فيها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، إننا يجب أن نقوم بواجبنا ووظيفتنا.

المقدم: أشكرك سماحة الشيخ حسن الصفار، المفكر السعودي، ونتمنى لك التوفيق في كل مهمامّك وشكرًا لك على هذا الحضور في «مراجعات»، وشكرًا للمشاهدين على المتابعة. والسلام عليكم.

[1]  سورة الحجرات، الآية: 13.