حقوق الإنسان بين الفقه والقرآن

لا شك أن مجمل مسائل الفقه الإسلامي تستهدف حماية الحقوق بين الناس وإقامة العدل، ورفض الظلم والجور.

إلا أن هناك تفاوتاً واضحاً وبوناً شاسعاً بين مستوى الاهتمام القرآني بحقوق الإنسان، وبين موقعيتها في الفقه الإسلامي، ذلك لأن نتاج العملية الاجتهادية للفقهاء كان في الغالب محكوماً بالبيئة السياسية والثقافية السائدة في مجتمعات الأمة، تلك البيئة الخاضعة لواقع الاستبداد والتخلف.

وقد تناول الشهيد مطهري في كتابه محاضرات في الدين والاجتماع هذه المشكلة بوضوح، فقال في بحث له عن «الاجتهاد في الإسلام» تحت عنوان: أثر شخصية الفقيه في فتاواه، ما يلي:

«عمل الفقيه والمجتهد هو استنباط الأحكام الشرعية، إلا أن معرفته وإحاطته وطراز نظرته إلى العالم تؤثر تأثيراً كبيراً في فتاواه. على الفقيه أن يكون محيطاً إحاطة كاملة بالموضوع المطلوب منه إصدار فتوى فيه. فإذا افترضنا فقيهاً دائم الانزواء في بيته أو مدرسته، ثم نقارنه بفقيه آخر يعايش حركة الحياة حوله، نجد أن كليهما يرجعان إلى الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم، ولكن كلا منهما يستنبط حكمه على أساس وجهة نظره الخاصة.

لو أن أحداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدنية».

من هنا فإن نقد الفقه الإسلامي ليس نقداً للشريعة أو للدين ذاته، وإنما هو نقد لما استنبطه وفهمه هذا الفقيه أو ذاك من المصادر الدينية، فالشرع المقطوع به من قبل الله تعالى كاملٌ حقٌّ لا يصح التردد في قبوله، أو توجيه النقد إليه، لكن ما يفهمه ويستنبطه الفقيه من الشرع، هو جهد بشري محتمل للصواب والخطأ.

لذلك يختلف الفقهاء فيما بينهم في أصول الاستنباط ومبانيه، كما يختلفون في الآراء والفتاوى الفقهية، وديدن الفقهاء نقدهم لبعضهم بعضاً في مسائل الاختلاف، وهي أكثرية مسائل الفقه؛ لأن المتفق عليه والمقطوع به لا تزيد نسبته على 5% من مجموع مسائل الفقه.

وللنقد دور كبير في إثراء علم الفقه وأصوله، وهو لا يعني التقليل من عظمة هذا العلم الأصيل، ولا الاستهانة بالجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء في تحقيق أبحاثه ومسائله. فإن من يطلع على كنوز الفقه ويقرأ عن إخلاص الفقهاء وصرف أعمارهم وحياتهم في مدارسة العلم وغمار البحث، يدرك قيمة تلك الجهود الجبارة العظيمة.

ويجب الاعتراف بأن قضية حقوق الإنسان لم يظهر الاهتمام بها على المستوى العالمي، إلا في أعقاب الإعلان الأمريكي للاستقلال سنة 1776م، والإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن، المنبثق من حركة الثورة الفرنسية عام 1789م، حيث كان نقطة الانطلاق لصياغة نظرية عامة متكاملة للحريات العامة.  ثم تكرّست موقعية حقوق الإنسان عالميّا بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من الأمم المتحدة عام 1948م.

واللافت للنظر عدم مواكبة الفقه الإسلامي لتطور مسيرة حقوق الإنسان في هذين القرنين الأخيرين، مع ما حققته هذه المسيرة من تقدم على الصعيد المعرفي في أوساط المفكرين الغربيين، وكذلك تتابع التقدم السياسي باعتماد مواثيق حقوق الإنسان على المستوى الدولي، ثم تصاعد الاهتمام بحقوق الإنسان إعلاميّا وشعبيّا، بتكوين منظمات المجتمع المدني المهتمة بحقوق الإنسان في مختلف أنحاء العالم.

بينما لم تُبْدِ حركة الفقه الإسلامي أي تفاعل يذكر مع هذه المسيرة الصاعدة لقضية حقوق الإنسان.

فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وملحقاته، لم يَحْظَ بدراسة علمية ناقدة تؤصل موادّه وفق موازين الفقه الإسلامي. ولم يتبنَّ الفقهاء حقوق الإنسان كعنوان لباب من أبواب الفقه يبحثون فيه ما يرتبط بجوانب هذه الحقوق من مسائل شرعية.

إضافة إلى ذلك، لم تراجع الفتاوى والآراء الفقهية التي يبدو منها التصادم مع ما أقرّته المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، على صعيد حرية المعتقد، والعلاقة مع الآخر الديني، وفي مجال الإدارة السياسية، وحول دور المرأة ومشاركتها العامة.

ولا يصح لنا أن نتجاهل بعض المبادرات التي قام بها بعض العلماء والمفكرين لمقاربة موضوع حقوق الإنسان على ضوء الشريعة الإسلامية، وكذلك انعقاد بعض المؤتمرات واللقاءات العلمية المهتمة بهذا الموضوع إلّا أنها لم تَرْقَ إلى مستوى الاهتمام العالمي بقضايا حقوق الإنسان، فضلاً عن قصورها عن مقاربة الواقع الاجتماعي والسياسي الذي تعيشه أغلب المجتمعات الإسلامية في مخالفته لمبادئ ومواثيق حقوق الإنسان، ولم تصل إلى حدِّ تركيز هذا الموضوع في منهجية ومنظومة البحث الفقهي.

وأتفق هنا مع ما ذكره الأستاذ الشيخ حيدر حبّ الله -في بحث نشره في مجلة الاجتهاد والتجديد العدد الثالث، تحت عنوان: فقه الجهاد في الإسلام- من أن الفقه الإسلامي، كسائر العلوم البشرية، يحتاج إلى إعادة هيكلة وتبويب كل فترة؛ لأن تبويب الفقه وتقسيم مباحثه ليس أمراً جزافيّا أو اتفاقيّا عادةً، وإنما يلعب دورا في مسيرة العلم، أو يكشف عن تصوّر له، فقد يعيق حركته، وقد يدفعه إلى الأمام، كما قد يجعله مواكباً للواقع وقد يصيّره أعجز من أن يؤثر فيه أو يصاحبه، من هنا تحتاج العلوم ـ عادةً ـ إلى هيكلة تستجيب لطبيعة التطورات من جهة، كما تدفع العلم نفسه نحو المزيد من الإنتاج من جهة أخرى. وللفقيه الراحل السيد محمد الشيرازي تجربة رائدة على هذا الصعيد، حيث أفرد في موسوعته الفقهية، أجزاء لعناوين مستحدثة في البحث الفقهي مثل: فقه البيئة، فقه المرور، فقه العولمة، فقه الاجتماع، فقه السياسة، فقه الإدارة، فقه الحقوق، وغيرها من الأبواب الجديدة التي لم يسبق إفرادها بعناوين مستقلة في الكتابات الفقهية.

إنني أتمنى من الحوزات والمراكز العلمية الدينية: أن تضع مقرراً لتدريس حقوق الإنسان ضمن برامجها الدراسية، وأن يشرع الفقهاء بتناول موضوع حقوق الإنسان في أبحاثهم العالية «بحث الخارج»، كما يبحثون سائر أبواب الفقه، وأن تضم الرسائل العملية التي يصدرها الفقهاء متضمنة لفتاواهم فصلاً حول حقوق الإنسان، ومن الأهمية بمكان إعادة بحث المسائل الفقهية التي يبدو منها التعارض مع مواثيق حقوق الإنسان بجرأة وشجاعة، تلتزم ضوابط الشرع، وتتجاوز تحفظات الأجواء الفقهية السائدة والخاضعة لرأي السَّلف.

الأربعاء 13 مايو 2009