الاحتماء بالدين للمحافظة على الهوية

لماذا فشلت محاولات فصل الأمة الإسلامية عن تراثها؟

كل جيل يأتي فهو جديد على الحياة، لا معرفة له بمعادلاتها، ولا خبرة له بأوضاعها، فيحتاج إلى رؤية ينظر من خلالها للحياة، وإلى مفاهيم تنّظم تفكيره، وإلى منهجية في طريقة العيش، وأنماط السلوك، يقول تعالى: ﴿وَالله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا.

ولأن نشأة الجيل الجديد تكون في أحضان الجيل السابق، فمن الطبيعي أن يرث عنه رؤيته ونظرته، وأسلوبه في المعيشة والحياة، كما يأخذ عنه لغة الكلام، وطريقة الحركة، حيث يتربى على ذلك، وتنغرس في نفسه عن طريق المحاكاة والتقمص، ويتمسك بها كجزء من انشداده العاطفي لأسلافه وماضيه.

ثم إن تراث الآباء، هو الخيار الأسهل، والأقرب تناولاً للإنسان، في بحثه عن رؤية للحياة، وطريقة للعيش فيها. هذا هو تفسير توارث الأجيال للأفكار والمفاهيم والتقاليد السلوكية، التي قد ينالها التطوير والتغيير بتعاقب الأجيال، لكن مع المحافظة على التوجهات الأساس.

وقد تحصل طفرة لدى جيل معيَّن، ينقلب على مِلة أسلافه، لانبثاق حركة تمرد ثقافي، نحو الأفضل، كالاستجابة لدعوات الأنبياء، أو نحو الأسوأ، كحالات الارتداد والانحراف عن منهج الله تعالى.

مفهوم التراث

التراث لغة: لفظ مرادف لـ(الإرث)

و (الوِرث) و(الميراث)، وكلها من مادة (و.ر.ث)، وهي تطلق على ما يخلفه الإنسان لورثته من مال أو حسب. فما يتركه السابق للاحق من مكاسب مادية أو معنوية يسمى تراثاً.

وقد استخدم القرآن الكريم مشتقات مادة (و.ر.ث) للدلالة على انتقال الثروات المادية، والثروات المعنوية الفكرية. فمن النوع الأول قوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا. أي تأكلون حصص شركائكم الضعفاء من الميراث، وتجمعونها وتلمونها إلى حصتكم، وقوله تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ.

ومن إطلاق الإرث على الموروث الروحي والثقافي قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا. والكتاب هو الرسالة الإلهية. ومثله قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. وجاء هذا الاستعمال في آيات أخرى من القرآن الكريم.

كما ورد في أحاديث الرسول إطلاق الإرث على التقاليد المتوارثة: فقد بعث ابن مربع الأنصاري إلى أهل عرفة ليقول لهم: (اثبتوا على مشاعركم هذه، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم) (سنن ابن ماجة حديث رقم 3011) إشارة إلى أن مناسك الحج وشعائره هي من تراث نبي الله إبراهيم الموحى إليه من قبل الله تعالى.

ومن أقوال الإمام علي: (العلم وراثة كريمة)، (ولا ميراث كالأدب).

من هذه النصوص وأمثالها يظهر استعمال مشتقات مادة (و.ر.ث) في معنى الموروث المعنوي والثقافي، وليس فقط الموروث المادي. بل إن بعض النصوص تؤكد على إرادة الموروث الثقافي في استخدامها لمادة (و.ر.ث)، وتنفي إرادة وراثة المال كالحديث الوارد عن رسول الله الذي نقلته مختلف المصادر، كسنن أبي داود، وسنن ابن ماجة، وسنن الدارمي، وسنن الترمذي، وبحار الأنوار، وغيرها، عن أبي الدرداء عنه : (إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)(سنن ابن ماجة حديث رقم 223).

لذلك نستغرب ما ذكره الدكتور محمد عابد الجابري من النفي الجازم لهذا الاستعمال في الخطاب العربي القديم، حيث قال: (ويمكن أن نلاحظ بالإضافة إلى ما تقدم أنه لا كلمة (تراث) ولا كلمة (ميراث) ولا أيًّا من المشتقات من مادة (و.ر.ث) قد استعمل قديماً في معنى الموروث الثقافي والفكري ـ حسب ما نعلم ـ وهو المعنى الذي يعطى لكلمة (تراث) في خطابنا المعاصر. إن الموضوع الذي تُحيل إليه هذه المادة ومشتقاتها في الخطاب العربي القديم كان دائماً: المال، وبدرجة أقل: الحسب. أما شؤون الفكر والثقافة فقد كانت غائبة تماماً عن المجال التداولي، أو الحقل الدلالي، لكلمة (تراث) ومرادفاتها. (محمد عابد الجابري/ التراث والحداثة، ص22، الطبعة الأولى 1991م، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).

الأمة والتراث

إن تراث أيّ أمة هو موروثها الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني الذي تتناقله وتتوارثه أجيالها.

وتتفاوت الأمم في حجــــــــم مخزونـــــــها التراثــي، تبـعاً لتـــفاوت مســــتويات حضاراتها، فالحضارة الأقــــــــوى تنتج تراثاً أكبر وأرقى، لذلك نجد الموروث الثقافي لبعــــض الأمم محـــــدوداً ومتواضعاً، بينما يكون واسعاً ثريًّا لدى أمم أخرى. كما أن درجة التمسك والتعلّق بالتراث تختلف من أمة إلى أخرى، ومن جيل إلى آخر، بفعل عوامل وأسباب مختلفة.

والأمة الإسلامية من أكثر أمم الأرض اهتماماً وتعلُّقاً بتراثها، لما له من صفة وصبغة دينية، تجعله موضع القداسة والتعبّد، وهو تراث واسع شامل يغطي مختلف مجالات الفكر والسلوك، لطبيعة شمولية الرسالة الإسلامية، ومعالجتها لكافة جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، المادية والروحية. كما أن مستوى التقدم والرقي الذي حققته الحضارة الإسلامية في عهود سابقة، أنتج زخماً كبيراً من التجارب والخبرات، وثروة هائلة من المعارف والثقافات.

 
تراث أمة هو موروثها الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني
 

وقد يكون من أسباب تعلق الأمة بتراثها الإسلامي، إضافة إلى ما سبق، ما واجهته الأمة في هذه العصور المتأخرة، من نكبات وصدمات، رأت فيها تهديداً لوجودها وهويَّتها، وخاصة تلك المحاولات والمخططات التي تستهدف تراث الأمة، وانتماءها الديني لإصابتها بالهزيمة النفسية، وتجريدها من منابع قوتها وصمودها، وإلغاء وحدتها، باعتبار أن تراثها الديني هو محور تلك الوحدة والارتباط بين مجتمعاتها وشعوبها المتعددة الأعراق والقوميات والبقاع. في مواجهة هذه الأخطار والتهديدات، وكردِّ فعل لها، ازداد تمسك الأمــــــــــــة بتراثـــــها، واحتمـــــائها بدينها، كحصــــن للحفــاظ على الهوية، وملجأ للدفاع عن الذات.

وفشلت محاولات فصل الأمة عن تراثها، مع ما توافر لتلك المحاولات من إمكانات هائلة، وقــدرات ضخمــــــة، حيـــــث تطابقــــــت أطماع قـــوى دوليـــــة خارجية، مع توجُّهات قوى مغرضة داخلية، وصل بعضها إلى مواقع السلطة والحكم بدعم خارجي، لتنفيذ مخططات طمس هوية الأمة وقطعها عن تراثها. وقد بلغ الأمر ببعض تلك القوى المتسلطة أن تتدخل حتى في الحريات الشخصية، فتمنع النساء المسلمات من ارتداء الحجاب، وتعاقب المواطن المسلم على أداء فريضة الصلاة.

وقد نشرت صحيفة الحياة في ملحقها الأسبوعي (الوسط)، تقريراً عن الإجراءات التي تتخذها قيادة الجيش التركي بحق من يلاحظ عليه أداء الصلاة، أو التزام زوجته بالحجاب، من جنود وضباط الجيش. ومما جاء فيه:

منذ عام 1996م جرى طرد أكثر من 1350 ضابطاً وضابط صف من الجيش التركي، فإذا أضفنا إليهم أولئك الذين طردوا من الجيش خلال سنوات دراستهم، في الكليات العسكرية، والآخرين الذين فضلوا التقاعد من الجيش باكراً، فإن العدد سيصبح ما بين 3500 و 4000 ضابط.

ولكن ما هو الخطأ الذي ارتكبه كل هؤلاء؟

(السلوك غير المنضبط) الحقيقة إن ما يتهمون به إنما هو الصلاة في المساجد، لاسيما أن زوجاتهم متهمات بارتداء الحجاب، والقرار الذي يتخذه المجلس العسكري الأعلى في هذا الشأن مبرم عادة.

ونقل التقرير عن أحد الضباط المطرودين بعد 22 سنة من الخدمة في الجيش، (عبدالواحد قولجي) قوله: ذات يوم قال لي قائدي: عليك أن تطلب من زوجتك رفع حجابها، وإلا فإنك ستطرد من الجيش. فأجبته: بأن الحجاب جزء من ديني، فإذا كنتُ مؤمناً عليَّ أن احترم قواعد الدين. وبعد بضعة شهور، طردت من الجيش قبل موعد تقاعدي بخمس سنوات، وخسرت كل شيء، عملي، ومرتبي، وضماني الاجتماعي.

وفي قصة مشابهة يقول ضابط آخر (مصطفى ايرول): كان من عادتي أن أذهب للصلاة في قاعة المصلى في الثكنة مع 3 أو 4 جنود بسطاء، وكان من سوء حظي، ذات يوم، أن الضابط المسؤول عن المراقبة، زار المصلَّى، ورآني وأنا أؤدي الصلاة، فسألني: لماذا تصلي؟ هل تصوم رمضان أيضاً؟.. وتم نقله إلى منطقة نائية عقوبة ثم انتهى الأمر إلى طرده. (الحياة الأسبوعية، الوسط، لندن، عدد 610، بتاريخ 6 اكتوبر 2003م).

وتحصل مثل هذه الأمور في أكثر من بلد إسلامي، لكن نتائجها في الغالب عكسية، حيث يزداد إصرار الأمة على دينها وتراثها، وأوضح دليل على ذلك هذه الصحوة الإسلامية الواسعة في أوساط مختلف شعوب الأمة ومجتمعاتها.

(*) جريدة الوطن القطرية السبت 16/2/2008م، العدد (4549).