قضايا العقيدة والتواصل المعرفي

الأمة بحاجة إلى مبادرات علمية جريئة

شهدت ساحة الأمة في هذا العصر بداية تواصل معرفي يبشّر بالخير بين نخبها العلمية والفكرية لكنها اتجهت غالبا صوب المجالين الفقهي والثقافي.

ففي المجال الفقهي صدرت عام 1961 موسوعة جمال عبدالناصر الفقهية من القاهرة لتذكر آراء المذاهب الاسلامية في مسائل الفقه جنبا الى جنب، المذاهب الاربعة والمذهب الظاهري ومذهب الامامية ومذهب الزيدية ومذهب الاباضية.

وصدرت مجموعة من الكتب الفقهية التي تتناول آراء مختلف المذاهب في جميع ابواب الفقه الاسلامي أو بعضها ككتاب «الفقه على المذاهب الخمسة» للشيخ محمد جواد مغنية وموسوعة «الفقه الاسلامي وأدلته» للدكتور وهبة الزحيلي وكتاب «الاحوال الشخصية» للشيخ محمد أبو زهرة وكتاب «احكام الاسرة في الاسلام» للدكتور محمد مصطفى شلبي وغيرها كثير.

وكان تأسيس «مجمع الفقه الاسلامي» بالقرار الصادر عن مؤتمر القمة الاسلامي الثالث المنعقد بمكة المكرمة بتاريخ 19 حتى 22 ربيع الاول 1401هـ الموافق 25 حتى 28 يناير 1981م خطوة رائدة على هذا الصعيد حيث يتكون هذا المجمع من علماء وفقهاء يمثلون كل الدول الاسلامية الاعضاء في منظمة المؤتمر الاسلامي بمذاهبها المختلفة من السُنة والشيعة والزيدية والاباضية.

وينتظم اعضاؤه في شعب متخصصة لها لجان فرعية ومن شعبه شعبة التقريب بين المذاهب وفي كل دورة من دورات المجمع تناقش قضية أو اكثر من قضايا الفكر والفقه الاسلامي حسب تخطيط مسبق من قبل الاعضاء المشاركين. كما تصدر عن المجمع مجلة تتضمن البحوث المقدمة والمداخلات والتعقيبات بعنوان «مجلة مجمع الفقه الاسلامي» وقد صدر منها اربعون مجلدا.

ومن الانجازات الطيبة التي قام بها مجمع الفقه الاسلامي لتفعيل حركة التواصل المعرفي بين المذاهب الاسلامية ما قرره المجمع في دورته الثالثة المنعقدة بعمان  الاردن بتاريخ 8 صفر 1407هـ، من تشكيل لجنة لدراسة مشروع تحت اسم «مَعْلَمَة القواعد الفقهية» يستهدف الدراسة المقارنة للقواعد الفقهية في شتى المذاهب وبعد سنوات عقدت ندوة خاصة لمتابعة المشروع انتهت بالاتفاق على مقترح للوفد الايراني يتلخص في ان يقوم ممثلو كل مذهب بانتخاب عمدة الكتب الاصيلة الفقهية والاصولية لديهم ثم استخلاص القواعد منها مع الاشارة الى المصادر في كل كتاب. ويعتمد ذلك مرجعا ومصدرا لرأي المذهب على هذا الصعيد.

وقد أنجز الجانب الايراني مهمته بتشكيل لجنة من الحوزة العلمية قامت باعداد كتاب جامع للقواعد الاصولية والفقهية للمذهب الامامي طبع في ثلاثة مجلدات عام 1425هـ - 2004م.

اما على الصعيد الثقافي: فحركة التواصل بين مفكري الامة وعلمائها ومثقفيها من مختلف المذاهب والتيارات اقوى وأنشط فهناك اكثر من مؤتمر ولقاء يعقد كل عام في مختلف انحاء العالم لتناول قضايا الاسلام وأوضاع الامة وهناك عدد من المجلات الفكرية الثقافية: العامة أو المتخصصة التي يشارك في تحريرها كتاب من مختلف الاتجاهات والمذاهب في الامة.

ضعف التواصل عقديا

لكن مجال البحوث العقدية وميدان علم الكلام هو ما تشكو فيه حركة التواصل المعرفي بين مذاهب الامة وتياراتها من الخمول والركود حيث لا يزال هذا الميدان ساحة للصراع ومعتركا للنزاع تسود اجواءه حالة التوتر وتسيطر على حركته حالة التشنج.

ويبدو لي ان العلماء الناضجين في الامة لم يولوا هذا المجال ما يستحق من عناية واهتمام وتركوه لتفاعلات تراث العصور الماضية بما فيه من خصومات وخلافات فأصبح ساحة للقوى المتطرفة المتعصبة من مختلف المدارس والمذاهب.

وأكبر شاهد على ذلك كتابات التهريج ضد هذا المذهب أو ذاك وفتاوى التكفير ضد هذه الطائفة أو تلك والمناظرات غير العلمية التي تبثها بعض الفضائيات والمشتملة على كثير من الاثارات والمهاترات التي تؤجج نار العداوة والبغضاء بين المسلمين.

وعلى شبكة الانترنت تخصصت مواقع طائفية كثيرة لتبادل الاتهامات والمطاعن والسباب والشتائم ولا شك ان القضية العقدية هي الاكثر اهمية على المستوى الديني فهي اساس الدين وجوهره وعمقه وأصله كما ان لها تأثيرها الكبير على مشاعر الانسان وتوجهاته السلوكية والعملية.

وإذا كان التعارف والتواصل مطلوبا بين ابناء الامة في مختلف المجالات فهو في المجال العقدي اكثر أهمية وفائدة وذلك للأسباب التالية:

أولا: يساعد الانسان المسلم على اكتشاف الحق ومعرفة الصواب في مسائل العقيدة عن طريق اطلاعه على مختلف الآراء وفهمه لأدلتها فليس صحيحا ان يسترسل الانسان في معتقداته مع ما ورثه من آبائه وأجداده أو ما ألفه في بيئته ومحيطه دون بحث وتمحيص ودليل وبرهان.

ثانيا: إن القراءة الموضوعية لآراء الفرق والاتجاهات العقدية الاخرى تمكن الانسان من معرفة الآخرين على حقيقتهم وواقعهم بينما تكون القطيعة المعرفية سببا للجهل بالآخر ورسم صورة غير دقيقة عن توجهاته.

إن بعض المسلمين يسيئون الظن ببعضهم الآخر ويحكمون عليهم احكاما جائرة بناء على مقدمات خاطئة ومعلومات مغلوطة قد تؤخذ عن طريق مناوئيهم وخصومهم. وهذا ما حذر منه القرآن الكريم «فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة».

ولعل اكثر المصادر التي تتحدث عن الملل والنحل والمذاهب والفرق مصابة بهذا الخلل الكبير والمؤسف ان مصدرا حديثا هو «الموسوعة الميسرة في الاديان والمذاهب والاحزاب المعاصرة» اصدرته مؤسسة اسلامية عالمية هي «الندوة العالمية للشباب الاسلامي» وروجته بشكل مكثف وبطبعات متعددة لكنه يقدم سائر المذاهب والاتجاهات الاسلامية المخالفة للنهج السلفي بصورة مشوهة وبأسلوب يقطر حقدا وتعصبا.

وكأن الجهة التي اصدرته تريد نشر الخصومة والعداوة بين اجيال الامة المعاصرة. وما نأمله هو سرعة المبادرة لاعادة النظر في مواد هذه الموسوعة من قبل الجهة التي اصدرتها.

إن مثل هذه الجهود البغيضة تؤكد ضرورة الانفتاح والتواصل المعرفي المباشر بين المدارس الكلامية والاتجاهات العقدية في الامة وبخاصة على صعيد النخبة العلمية.

ثالثا: إن التواصل العلمي وتدارس القضايا بموضوعية واخلاص على اي صعيد ديني ومعرفي يتيح المجال لبلورة الرأي وتكامل الفكر وحل العقد ومعالجة الثغرات.

 
بعض المسلمين يسيئون الظن ببعضهم الآخر بناء على مقدمات ومعلومات خاطئة
 

وكما يمكن التقارب والتكامل في معالجة قضايا الفقه والثقافة فإنه يمكن الوصول الى بعض المعالجات وتصحيح بعض الآراء في المسائل الكلامية والعقدية، خاصة ان بعض الخلافات تغذيها عوامل سياسية ومصلحية في التاريخ الماضي وقد تجاوزتها الامة.

رابعا: هناك مسائل جديدة في علم الكلام تشكل تحديا امام العقيدة الاسلامية ككل، وهي تستوجب تعاونا بين علماء الامة المتخصصين من مختلف المذاهب لتوضيح الرؤية الاسلامية تجاه هذه المسائل المطروحة في أذهان الجيل المسلم المعاصر.

لهذه الاسباب وغيرها يتوجب الاهتمام ببعث حركة علمية معرفية للتواصل والانفتاح بين علماء الامة المهتمين ببحوث العقيدة وعلم الكلام من مختلف المدارس والمذاهب.

مقترحات للتواصل

إن ساحة الامة، خاصة في هذا العصر الذي تشتد فيه التحديات وتتسم أجواؤه بالانفتاح المعرفي، بحاجة الى مبادرات جريئة لكسر حالة الجمود والقطيعة على الصعيد العقدي معرفيا وتوفير فرص التواصل العلمي وعرض الآراء والافكار بموضوعية وانصاف ويمكن ان تكون المقترحات التالية سبيلا للتواصل:

1- انشاء كلية لدراسة العقائد وعلم الكلام المقارن على نسق دراسة علم الفقه المقارن.

2- تشكيل مؤسسة علمية اسلامية تهتم بالدراسات والبحوث العقدية بمشاركة علماء ومفكرين يمثلون مختلف المدارس الكلامية في الامة على غرار مجمع الفقه الاسلامي. ونتمنى تكرار التجربة الرائدة لمجمع الفقه الاسلامي التي سبقت الاشارة إليها: من تكليف ممثلي كل مذهب بتقديم رأي مذهبهم على صعيد القواعد الاصولية والفقهية نتمنى حصول مثل ذلك على الصعيد العقدي ايضا بأن يقدم العلماء من كل مذهب آراءهم العقدية والكلامية بأسلوب علمي موثق ليكون ذلك هو المصدر والمرجع المعتمد لدى الآخرين عنهم.

3- اصدار مجلة متخصصة ببحوث علم الكلام والدراسات العقدية تنفتح على مختلف التوجهات بنشر كتاباتها العلمية واجراء الحوارات مع شخصياتهم المعرفية.

4- عقد مؤتمرات تخصصية تناقش قضايا العقيدة وعلم الكلام تشارك فيها مختلف المدارس ويبحث كل مؤتمر قضية محددة مثلا: مسألة العصمة، أو القضاء والقدر، أو اسماء الله وصفاته، أو الامامة.. وكذلك بحث المسائل الجديدة في علم الكلام كالتعددية الدينية والعلاقة بين الدين والعلم والهرمنوتيك أو تفسير النصوص.

قد يقال ان ما تواجهه الامة من تحديات سياسية واقتصادية أولى بالاهتمام من هذه البحوث النظرية لكني اجيب مع ادراكي لخطورة التحديات المذكورة بأن اهمال ساحة البحث العقدي يسبب الكثير من عوامل الخلل والاضعاف لقدرة الامة على مواجهة تلك التحديات ومن مظاهر الخلل اتاحة الفرصة للمتعصبين والمغرضين ليعبثوا بوحدة الامة ويمزقوا صفوفها بطروحاتهم الطائفية المتشنجة فلا بد من مواجهتهم بالطروحات العلمية الموضوعية.

كما ان لقضايا العقيدة تأثيرا لا يمكن انكاره وتجاهله في نفوس ابناء الامة وتشكيل فكرهم الديني وعلاقاتهم مع بعضهم فلماذا نترك هذه القضايا المهمة خاضعة لتأثير الموروث التاريخي وضمن حالة المفاصلة والقطيعة ولغة الانفعال والعاطفة؟ أليس من الافضل الارتقاء بالشأن العقيدي الى لغة العلم والمعرفة وضمن افق التواصل والحوار.

(*) السبت 2/2/2008، العدد4535.