ترانيم التراب والأرض

أمران دعياني لكتابة هذا الموضوع، الأول هو الدعوات التي استقبلتها لحضور مهرجانات شعرية وإنشادية تعددت عناوينها وأغراضها وغابت عنها الأناشيد الوطنية، والأمر الثاني هو اطلاعي على قصيدة حفرتها عذوبة أمير الشعر الأستاذ جاسم الصحيح تحت عنوان «الوطن بأبجدية ثانية».

هذه القصيدة تحديدا هي التي حركت فكرة الموضوع التي بقيت لفترة طويلة تحضر في البال ثم تغيب بسبب تأجيل الكتابة حولها، والانشغال عنها بسواها من الهموم،لكن يوم الأربعاء المنصرم كان موعدي مع قصيدة الأستاذ الصحيح، وقد أعجبتني جمالياتها ومضامينها. وحركت الفكرة القديمة من موقعها الذي استقرت فيه إلى رأس القلم لتكون بين يديك عزيزي القارئ.

النشيد الوطني الرسمي بات أمرا متسالماً عليه في كل دول العالم من أقصاه إلى أقصاه، وفي كل دولة يعبر هذا النشيد عن مقاييس وحدود قد تختلف عن بقية الدول، فالهموم التي يعيشها الفلسطينيون في بلادهم أعطت نشيدهم الوطني طعما ومذاقا يختلف عن الدول التي تعيش هموما مغايرة ومختلفة، ومع أن كل دولة تحاول أن توحي بلونها وطعمها ورائحتها على نشيدها الوطني الرسمي ليكون أكثر تأثيرا في نفوس مواطنيها إلا أن الرسمية في كل شيء تفقده عادة المغناطيسية والجذب، تماما كما هو حال الواحد منا حين يستقبله مسئول أو صديق في وضع ومكان رسمي أو يستقبله بعيدا عن الرسميات وبوضعية عفوية غير متكلفة، لذلك تعالت أصوات كثيرة تؤكد أن روتينية النشيد الوطني ورسميته قد لا تحققان أغراضه المرجوة منه، ولا تجعلانه قادرا على تأدية غاياته.

«فهناك من يرى أن الأناشيد الوطنية اليومية في المدارس والثكنات العسكرية تفرغ الوطنية في كلمات ينطقها الناس دون أن يشعروا بها، ودون أن تؤثر على السلوك والتفكير، فتزيد الأجيال بعدا عن تلك المعاني السامية. حتى أن البعض لا يستطيع الصبر على سماع الأناشيد الوطنية خاصة التي يتم عزفها في القنوات الرسمية قبل النوم، مما دعا البعض إلى وصف الأناشيد الوطنية بأنها (موسيقى قبل النوم)» كما كتب ذلك عبد الباقي خليفة، الشرق الأوسط 24/10/1426هـ .

«وفي لقاء أريحي مفتوح مع سمو وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز في جدة قبل عشرين يوماً وبصحبة بعض مسئولي التربية والتعليم بالمملكة، (والكلام من مقالة في جريدة الوطن،7/8/1425هـ، للأستاذ زياد الدريس) قلت لسموه: إنني لا أعلن سراً لو قلت إن الناس في اليوم الوطني بالذات لا يشاهدون التلفاز ولا يقرأون الصحف لأنها مملة ومحشوة بكلام إنشائي محروق.

نحن لا تنقصنا الوطنية .. لكن ينقصنا الصبر على مشاهدة وقراءة كلام إنشائي لا يحرك الوجدان ولا يثير المشاعر ولا يستفز الوله للوطن».

إن الأناشيد الأهلية والشعبية الوطنية تحقق زخما معاضدا للنشيد الرسمي، وتؤكد ارتباطا قويا بين المواطن وأرضه، وتتحول مع الكثرة والتنوع إلى رسالة تذكيرية توثق العلاقة الضرورية بين الإنسان والتراب.

والأناشيد الوطنية والتغني بالتراب والأرض لا يعني الرضا تماما بكل ما يدور عليهما، فنحن مع كل الخير الذي نحن فيه، والذي نحمد الله عليه، ما زلنا في الأرض التي يعتريها النقص، ولسنا في الجنان، ولا يعني القبول بالواقع دون طموح التطوير والتغيير للأحسن، فذلك ليس ديدن العقلاء والمحبين لأرضهم ووطنهم.

الأناشيد الوطنية يمكنها أن تحمل الكثير من الآلام والآمال والطموحات والأحلام، وأن تشير إلى الفترة الزمنية التي تنشد فيها وتؤرخها بكل عناصرها وتضاريسها السهل منها والوعر، الحلو منها والمر، المقبول منها والذي يحتاج إلى إعادة نظر وصياغة.

إن الفلسطيني واللبناني والأفغاني والعراقي مع ما يعانون جميعا من عذابات وأهوال على أراضيهم وترابهم وأوطانهم ما زالوا يترنمون وينشدون حبا للبقاء أو الموت على ترابهم، من دون أن تؤثر تلك العذابات فيهم أو تحجب حب الوطن والغزل فيه عن قلوبهم، إنهم بذلك يؤكدون أن الأناشيد الوطنية الشعبية هي متعة لكل مواطن صادق مهما كان مردود التصرفات التي تجري على تراب الوطن مؤلمة لأهله وساكنيه.

إن الفخر والتفاني والحب للوطن يفترضون أن يكون لكل مواطن مجموعة أناشيد وطنية شعبية تعاضد النشيد الوطني الرسمي وتلاقيه في معانيه، يتغنى بها ليتذكر دائما نقطة التلاقي مع كل حبة تراب على أرض وطنه، ومع كل مواطن يحيا فيه، ولا يتسع المجال في هذا لأي عذر من الأعذار، فالذي احتلت أرضه لا بد له من أناشيد وأهازيج وطنية للمقاومين والثائرين، ولا بد من أناشيد وطنية للاجئين وأناشيد وطنية للمعذبين وأناشيد وطنية للمهمشين، بل وحتى أناشيد وطنية للبدون، في البلدان التي يكثر فيها البدون.

msaffar45@hotmail.com

السبت 19/8/1428هـ الموافق 1/9/2007م - العدد 12496