البروسترويكا المذهبية

برهن المؤتمر الذي عقد في الدوحة "للتقريب" بين المذاهب الإسلامية أن هذا المشروع لا يزال هدفا بعيدا في أحسن أحواله. فعلى الرغم مما ساد فيه من الكلام عن الرغبة في "التقريب" بين المذاهب الإسلامية المختلفة إلا أن ممثليها أظهروا أنهم لا يزالون يتخندقون في مواقعهم السابقة.

فقد اشتكى الشيخ يوسف القرضاوي من النشاط الشيعي التبشيري في البلاد الإسلامية السنية، وطالب الشيخ التسخيري السُّنةَ بـ "وقف عمليات التبشير السني"، وبالتوقف عن وصف الشيعة في إيران بـ "الصفويين" أو "القرامطة الجدد" أو "تكفيرهم".

ويصرح الشيخ التسخيري بأن: "ما حدث بيني وبين أخي العلامة الشيخ القرضاوي كان حوارا أخويا صريحا وواضحا"، وأنه "لا خلافات بين شيوخ المذهبين السني والشيعي في المؤتمر وإنما هو مصارحة وشفافية في طرح القضايا". وكان الشيخ محمد حسين فضل الله أكثر دقة في وصفه الخلاف بين المذاهب إذ قال: "إن الاختلافات بين السنة والشيعة وبين المذاهب الإسلامية تشكل القضية الأخطر على الوجود الإسلامي ومستقبله بعد محاولات قوى التكفير والتعصب خطف الساحة الإسلامية". ثم وجه دعوة إلى مراجعة ما بين هذه المذاهب من اختلاف مصرحا بأنه لا يعتقد: "أن مشروع الأمة ورسالة التقريب بين المذاهب الإسلامية غير قابلة للتطبيق والتحقق على المستوى العملي، مؤكدا أن هذا المشروع عرف طريقه في كثير من محطات التاريخ الإسلامي وفي الحاضر".

والمحصلة المنطقية لهذه الجهود "التقريبية" أنه لا فائدة منها ما دام أن هدف كل فريق أن يدافع عن مذهبه ويحاول إثبات أن المشكلة تقع في مذهب الفريق الآخر.

والواقع أن هذه الجهود "التقريبية" تحتاج إلى أن يسبقها عمل تأسيسي آخر يتمثل في مراجعة كل مذهب من المذاهب الإسلامية مصادره العقدية والفقهية والتاريخية ونقدها من أجل التخفف من عبء الماضي المثقل بالتفسيرات الإقصائية التي أملتها الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية القديمة. وكنت أشرت في مقال سابق إلى أن هذه الخطوة ضرورية لمواجهة حدة العداء بين الطوائف الإسلامية، وبين الشيعة والسنة خاصة.

وأشرت إلى أن "علماء" الطرفين، ربما لا يكونون الأقدر على إنجاز هذا المشروع لأنهم هم أنفسهم نتاج لتلك المصادر القديمة وهو ما يعني أنهم يؤمنون إيمانا خالصا بصحة التاريخ بصورته التي توردها تلك المصادر. ومن هنا فليس ممكنا لكثير منهم أن يتخذوا مواقف نقدية منها لأن ذلك يتطلب قدرا عاليا من الحياد والموضوعية.

ومع هذا فقد كانت هناك بعض الجهود التي يقوم بها بعض "العلماء" للتصدي لبعض الآراء التقليدية التي تجعل من التقارب أمرا متعذرا. فقد بذل بعض "العلماء" على الجانب الشيعي، مثلا، في العقود القريبة الماضية جهودا معروفة في هذا المنحى. ومن أبرز هؤلاء علي شريعتي، ومحمد حسين فضل الله، وهاني فحص، ومحمد مهدي شمس الدين، وأحمد الكاتب. وجلبت عليهم تلك الآراء الإيجابية في مراجعة بعض القضايا المسببة للخلاف بين الشيعة والمذاهب الأخرى كثيرا من الأذى. وتحوي بعض المواقع الشيعية على الشبكة العنكبوتية هجوما عنيفا على هؤلاء بسبب ما اقترحوه من مراجعة لبعض القضايا.

ومن الذين بذلوا مثل هذا الجهد على المستوى السعودي الشيخ حسن الصفار الذي أبدى كثيرا من الآراء التي تصلح أن تكون أساسا لمسار موضوعي في هذا السبيل. وقد أبداها في منتديات أكثر روادها من الشيعة مما ينفي عنها أن تكون من قبيل المداهنة والتزلف.

ومما يشهد بصعوبة هذه المراجعات على الصعيد المحلي ذلك الغضب والنقد اللذان قوبلت بهما آراء الشيخ الصفار وبعض العلماء الشيعة السعوديين قبل سنتين عن بعض المظاهر الطقوسية التي تصاحب المراسم الدينية الشيعية.

ومن الأمثلة التي تبين الاتجاه الإصلاحي الذي يقوم به الشيخ الصفار محاضرتان ألقاهما في الأسابيع الماضية القريبة في منتديين مختلفين ونشرهما موقع يشرف عليه سعوديون شيعة وضمَّنهما كثيرا من الآراء الإيجابية التي يمكن أن يُبنى عليها لتجاوز الاتهامات المتبادلة التي ينشأ عنها أشد الشحناء وأسوأ مظاهر العداء بين السنة والشيعة (وأرجو العذر لنقل نصوص طويلة من هاتين المحاضرتين).

يقول في إحدى هاتين المحاضرتين، وكانت بعنوان "إمامة علي ووحدة الأمة"، إنه "لا يجوز لأي فرقة من فرق المسلمين أن تسقط الفرق الأخرى أو تكفرها فالجميع يرجع إلى مصادر تشريعية واحدة وأن الاختلاف هو في فهم النصوص، فبدلاً عن لغة التكفير لابد أن تسود لغة الحوار، لأننا مأمورون أن نحاور أهل الكتاب بالتي هي أحسن فكيف بنا نحن المسلمين ونحن إخوة من دين واحد تجمعنا كثير من المشتركات! فبدلاً من نظرة الفرق لما يفرقها لابد أن تنظر للمشتركات التي تجمعها فمصلحة الأمة وما يحيط بها من كوارث تستدعي أن يكون المسلمون يداً واحدة إذ العدو عدو الأمة بسنتها وشيعتها لا يفرق بين أحدٍ منهم فلماذا نفرق نحن؟!".

و"أن لغة التعبئة كانت قد تراجعت، ولغة الحوار والمحبة والتقارب كانت قد تقدمت وخطت خطوات كبيرة تجاه الأمام إلا أن أحداثاً كأحداث العراق وما يجري فيه من سفك للدماء جعل لغة التعبئة الطائفية تعود إلى السيادة، وأخذنا نرجع إلى الوراء مرة أخرى"، منبهاً إلى أنه يجب على المسلمين أن يتنبهوا لهذه اللغة وألا ينساقوا خلف دعاة الفرقة بين الأمة.

و"أن لغة الشتم واللعن ليست هي اللغة التي ينادي بها الإسلام، بل الإسلام يمقتها ويرفضها ويوجهنا إلى لغة الحوار الواعي، ودعا جميع المسلمين أن لا يكونوا أسرى للكتابات القديمة التي دعت للعنف والسب والتكفير، وأن نتجاوز ذلك إلى لغة الحوار والأخوة واحترام معتقدات الآخرين واحترام مقدساتهم".

وذهب إلى أبعد من هذا في المحاضرة الثانية إذ يقول: "هناك فئة محدودة من الأمة يُظهرون العداء لأهل البيت، ولكن أغلب الأمة يُعلنون حبهم لأهل البيت، صحيح أن المحبة لأهل البيت درجات، وأن أغلب المسلمين يحبون أهل البيت قلبياً ونفسياً، لكنهم لا يعتقدون بأنهم هم قيادة الأمة، وأنهم خلفاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أقوالهم واجبة الاتباع، فهذه حالة اختص بها شيعة أهل البيت.

فأصل محبة أهل البيت يتفق عليها المسلمون، أما دورهم ومكانتهم فهي محل نقاش، وكما يقول السيد الإمام الخوئي ـ رحمة الله عليه ـ في موسوعته الاستدلالية: "الضروري من الولاية إنما هو الولاية بمعنى الحب والولاء، وهم غير منكرين لها ـ بهذا المعنى ـ بل قد يظهرون حبهم لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ. وأما الولاية بمعنى الخلافة فهي ليست بضرورية بوجه وإنما هي مسألة نظرية وقد فسروها بمعنى الحب والولاء ولو تقليدا لآبائهم وعلمائهم وإنكارهم للولاية بمعنى الخلافة مستند إلى الشبهة كما عرفت وقد أسلفنا أن إنكار الضروري إنما يستتبع الكفر والنجاسة فيما إذا كان مستلزما لتكذيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما إذا كان عالما بأن ما ينكره مما ثبت من الدين بالضرورة وهذا لم يتحقق في حق أهل الخلاف لعدم ثبوت الخلافة عندهم بالضرورة لأهل البيت ـ عليهم السلام ـ نعم الولاية ـ بمعنى الخلافة ـ من ضروريات المذهب لا من ضروريات الدين".

"فالمعنى واضح: خلافة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وقيادتهم للأمة من ضرورات المذهب الجعفري، وهو ما اقتنع وآمن به شيعة أهل البيت، أما بقية المسلمين فعندهم قناعة ورأي آخر، بالطبع المجال مفتوح للنقاش وللحوار، فنحن لنا أدلتنا ولنا براهيننا وبقية المسلمين عندهم تأوّل لهذه النصوص".

وقد صيغت هذه الآراء المعتدلة التي تخالف ما يظن كثير من السنة والشيعة أنه الحقيقة بلغة متّزنة تقوم على ضرورة حسن الظن بالسنة الذين لا يتفقون مع الشيعة في بعض تفسيرات النصوص الكريمة ولا في تفسير أحداث التاريخ.

وليس من العدل، أمام هذه الآراء الإيجابية الجريئة، أن نشكك في نية الشيخ الصفار و"العلماء" الآخرين الذين يعلنون مثل هذه الآراء التي يمكن أن تُحدث ردود فعل إيجابية عند كثير من السنة المعتدلين. بل الواجب علينا أن نقدِّرها ونشجعها وأن نستنكر اللغة الحادة المشكِّكة التي يستخدمها بعض من اتخذوا الجدل بين المذهبين حرفة لهم. ومن هؤلاء بعض خطباء الجمعة من السعوديين السنة الذين يتخذون مواقف متطرفة من الشيعة، وكذلك بعض الكتّاب الذين يشككون في نوايا الشيعة.

كما يجب أن تقابل هذه الجهود بجهود مماثلة يقوم بها علماء السنة لمراجعة الآراء والمقولات التي تشرع للتنابذ والأحقاد.

وأعود لما أشرت إليه في مقالي السابق من أن المراجعة المجدية للمذهبين تتطلب أن يتصدى لها المتخصصون في التاريخ والأناسة والعلوم الإنسانية الحديثة الأخرى. ذلك أن هؤلاء ليسوا عرضة للتأثر بالمصادر المذهبية القديمة وهم أكثر كفاءة في البحث العلمي المعاصر.

أما في غياب هذه المراجعة فلا بديل عن الاهتمام بما يعزز التعايش بين المسلمين بغض النظر عن مذاهبهم في إطار وطن يتسع للجميع ولا يضار فيه أحد بسبب انتمائه المذهبي.

صحيفة الوطن، العدد 2316، 13 محرم 1428هـ الموافق 1 فبراير 2007م
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
حسين سلمان
[ البحرين - سند ]: 3 / 2 / 2007م - 6:54 م
اود الإشادة بمقال الدكتور حمزة المزيني ، الذي يتسم بالموضوعية وروح المسئولية، وهذا نابع- بلا أدنى شك_ من حرصه على مصلحة هذه الأمة التى تكالب عليها الأعداء ، وارجو من الآخو ة من كلا المذهبين الكريمين السيرفي هذا الاتجاه من أجل محاصرة الإقصائيين واصحاب الفكر الضيق الذين لايعرفون لغة الحوار والنقاش العلمي الرصين، وكل مالديهم سوى التكفير والسباب مع الأسف، بارك الله في الدكتور المزيني وسماحة الشيخ الصفار وسدد خطاهم وكم نحن في امس الحاجة إلى مثل هذه ألأطروحات التي تعبر عن حقيقة الإسلام المحمدي الأصيل والسلام عليكم
أكاديمي وكاتب سعودي