بينات: «التعصب للرأي، موقف متشنج من الآخر» للشيخ الصفار

الشيخ حسن الصفار * بينات

 نشرت جريدة بينات في عددها رقم 181 «الجمعة 6 رمضان 1427هـ الموافق 29 سبتمبر 2006م» ص 7، مقالا لسماحة الشيخ حسن الصفار بعنوان: التعصب للرأي: موقف متشنج من الآخر.

جدير بالذكر أن جريدة بينات هي جريدة أسبوعية تصدر عن مكتب الثقافة والإعلام للمرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله.

وهذا نص المقال:

يبالغ بعض الناس في التعصب لآرائهم، ويفرطون في الثقة بها، بحيث لا يفسحون أي مجال ولا يعطون أي فرصة للرأي الآخر، فهم على الحق المطلق دائماً، وغيرهم على الباطل في كل شيء.

احتمال الخطأ:

وينتج عن هذه الحالة – غالباً- موقف التطرف والحديّة تجاه المخالفين، وحتى في الاختلاف عند بعض القضايا الجزئية، والأمور البسيطة الجانبية.

إنه خلق يخالف تعاليم الإسلام الذي يربي أبناءه على الاستماع لمختلف الآراء ومحاكمتها على أساس الدليل والمنطق، لا التعصب والانفعال. يقول تعالى: ﴿فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعونَ أحسنه[1] 

وأكثر من ذلك فإن رسول الله والذي لا يشك في أحقية دعوته بمقدار ذرة واحدة، يخاطب المشركين بمنتهى التواضع والموضوعية قائلاً ﴿وإنّا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين[2] . إنه منهج تربوي عظيم، يصوغ شخصية الإنسان على أساس احترام الآخرين، ومركزية العقل والوجدان.

والتعصب المطلق للرأي، والحدية والتشنج تجاه آراء الآخرين، يمنع الإنسان من الانفتاح على الرأي الآخر، واستماعه والإطلاع عليه، وربما كان هو الرأي الصحيح والصائب. ثم أن ذلك قد يجعل الإنسان في موقف حرج مستقبلاً إذ قد يتبين له خطأ رأيه، فكم من إنسان تراجع عن رأيه، وتغيرت قناعاته؟ وتلك حالة طبيعية قد تحصل للإنسان تجاه مختلف المسائل والقضايا.

يقول شاعر المهجر إيليا أبو ماضي:

رب فكر بان في لوحـة نفسي و تجلى

خلتـه مني و لكـن لم يقـم حتى تولى
 
مثل طيف بان في بئـر قليلاً واضمحلا
 
كيف وافى و لماذا فرّ مني؟ لست أدري

وقد رأينا أناساً كانوا يبالغون في التعصب لآرائهم حول بعض المسائل والأشخاص والجهات، ويعتبرون القول بهذا الرأي هو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، أو يعتقدون أن الولاء لهذا الشخص أو لهذه الجهة هو مقياس الحق والباطل، ويعادون الناس ويناوؤنهم على هذا الأساس. لكنهم بعد فترة من الزمن تغيرت قناعاتهم وآراؤهم، مئة وثمانين درجة، مما أوقعهم في حرج مع أنفسهم وتجاه الناس.

إن الاعتدال والوسطية هو المنهج السليم، فلا يكون الإنسان متطرفاً ولا متشنجاً حاداً في مواقفه مع الآخرين، وعلى هذا المعنى يحمل قول أمير المؤمنين علي : «أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما».

وجميل ما قاله أحد العلماء: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.

تفّهم مواقف الآخرين:

حينما تعتقد أحقية رأي معين، وتجد آخرين يخالفون هذا الرأي الحق –في نظرك- فإن عليك قبل أن تتهمهم بالعناد والجحود والمروق، وأن تتخذ منهم موقفاً عدائياً، عليك أن تتفهم ظروفهم وخلفية مواقفهم.

فلعل لديهم أدلة مقنعة على ما يذهبون إليه.

أو لعلهم يجهلون الرأي الحق، لقصور في مداركهم ومعلوماتهم.

أو لعلهم يعيشون ضمن بيئة وأجواء تحجب عنهم الحقائق.

أو لعلّ هناك شبهات تشوّش على أذهانهم وأفكارهم.

وتجاه مثل هذه الاحتمالات فإن المطلوب منك هو دراسة موقف الطرف الآخر، ومعرفة وجهة نظره، والدخول في حوار موضوعي معه، ومساعدته على الوصول إلى الحقيقة.

ونشير هنا إلى ملاحظة دقيقة هي: أن الإنسان قد يؤمن برأي من الآراء، ويعتبره حقيقة واضحة، تصل إلى مستوى المسلمات والبديهيات، لأنه قد أشبع الأمر بحثاً، وانشد إليه نفسياً، وعاش ضمن محيط قائم على أساس ذلك الرأي، فالمسألة أمامه واضحة جلية لا نقاش فيها، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للآخرين.

(إن وضوح الفكرة لدينا لا يعني أن الآخرين ينظرون إليها بنفس الوضوح، فربما كنا نتطلع إليها من خلال الجوانب المضيئة عندنا، بينما يكون عنصر الضوء غير متوفر في الجوانب الأخرى التي يعيش فيها الآخرون، لأنهم لا يملكون ما يهيئ لهم ذلك، تماماً كما يكون الصحو في بعض الآفاق مجالاً للانطلاق مع إشعاع الشمس، بينما تجعل السحب الدكناء الآفاق الأخرى في ظلام دامس. وقد يبدو هذا طبيعياً عندما نلاحظ اختلاف وجهات النظر في فهم بعض الأشياء العادية في الحياة، كنتيجة طبيعية لاختلاف العادات والظروف والأفكار. ولعل قيمة هذا الاتجاه، في ملاحظة موقعنا تجاه الآخرين، تبرز في إتاحة الفرصة لنا في الانطلاق نحو موضوعية أكثر وفهم أرحب، في سبيل تعرف وجهة النظر الأخرى، من حيث طبيعة الفكرة التي يؤمنون بها من جهة، ومن حيث طبيعة الموقف الذي يتخذونه منا، من جهة أخرى، الأمر الذي يجعلنا أكثر قدرة على الحركة بوعي، وعلى ضوء الأجوبة الصحيحة لما يرد من التساؤلات، ومعالجة القضايا المعروضة في مجالات البحث)[3] .

نهج موضوعي:

وربانا القرآن على هذا النهج الموضوعي حينما يتحدث عن فئات من الرافضين لرسالات الأنبياء، بأن سبب ذلك الرفض هو الجهل وعدم العلم، كقوله تعالى: ﴿ذلك بأنهم قوم لا يعلمون[4] . وقوله تعالى: ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون[5] . ويقول تعالى: ﴿ذلك مبلغهم من العلم[6] .

فنبي الله نوح في بدء رسالته يخاطب قومه مبدياً تفهمه لظروفهم التي تجعلهم يرفضون رسالته، بسبب التشويش على أذهانهم، ووجود الشبهات التي تعيق تفكيرهم، مع أنه يحمل إليهم الدعوة الصادقة، والحجة الواضحة مطالباً لهم بتجاوز تلك الحواجز ليروا الحق. يقول تعالى: ﴿قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده فعمّيت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون[7] .

وفي لفتة تربوية معبرة يتحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل بعد نجاتهم من الغرق مع نبي الله موسى ، وطلبهم منه أن يجعل لهم أصناماً كما للمشركين أصنام!! ومع سخافة الطلب ومخالفته الواضحة للدين، إلا أن نبي الله موسى أرجع ذلك إلى جهلهم، ثم صار يقرر عليهم حقيقة التوحيد من جديد، يقول تعالى: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون. إن هؤلاء متبّر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم إلهاً وهو فضلكم على العالمين[8] .

([1] ) الزمر، آية 17-18.
([2] ) سبأ، آية 24.
([3] ) فضل الله: السيد محمد حسين/ خطوات على طريق الإسلام ص357 الطبعة الأولى 1977م دار التعارف بيروت.
([4] ) التوبة، آية 6.
([5] ) الأنعام، آية 37.
([6] ) النجم، آية 30.
([7] ) هود، آية 28.
([8] ) الأعراف، آية 138-140.